أن تهرب من سطوة المستحيل فهذا جنون، لكن أن تكون مجنوناً بما يكفي لتصنع المستحيل بيديك فهذه هي سطوة العقل الكامنة فيك.. فالإنسان هو صانع المعجزات بالرغم من بهيميته وزحفه نحو الغريزة إلا أنه يبقى المخلوق
الوحيد الذي تكسو جلده الثياب.
الاندفاع المشتعل الذي يتوارى خلف ألفاظنا والحان رغباتنا لا يطفؤه ماء المحيط ولا تجمده برودة القطب لأنه مخبوء في أعمق قيعان الجسد.. ولهذا لا ينتهي إلا بانتهاء الروح.
قد تهب العواصف شتاءً وتتساقط الثلوج صيفاً، قد نبدأ من نهاية وننتهي على أبواب بداية، قد نحيا بعد موت ونموت بعد حياة، لكن هذا الشيء الذي يشتهي السلسبيل فينا باقٍ بالرغم من الموت ولهذا نرتقي في السماء بعد أن تنتهي مهمة
الأرض.
اللحاق بالفضيلة ليس صعباً إن كانت لديك راحلة وما من زادٍ يذكر سوى أن تكون صفياً لروحك بغير تصوف ..أما أن تترهبن غرائزك فاعلم أن الحياة ليست محراباً وأن المآذن وأجراس الكنائس قد تصمت وتنطق معاً.
في الحياة الكثير مما يستحق البقاء وفيها الكثير مما لا يداويه إلا الموت.. وأن تفهم ذلك فهل كل العلم ونصف الدين وربع الفلسفة، لكن أن تتأرجح ككفة ميزانٍ خالية.. فلست وحدك في هذا العالم، هناك سواك الكثير.
والسبيل لأن تصل إلى نفسك ليس صعباً.. فقط أشعل الضوء لترى من أنت، أما أن تبقى في الظلام، فلربما يسحقك الآخرون، وعندها لن تفهم الحياة ولن تصل لأنك ستبقى مقيداً بأذيال الخيبة، تخجل أن ترى على وجهك وطئ
أقدام البشر.. في عينيك حلم لا ينطفئ ما دامت الدماء تتدفق فيك.. وبين يديك تقف ذاتك وحولك الدنيا بأسرها، فلا تبقى واقفاً أما جدار الأمنيات.
حاول أن لا تتلاشى.. فاللذة التي تكسو ظهورك صامداً لا تساويها لذة.. واللحظة التي تصل فيها إلى القمة مهما وقعت لا تعدلها لحظة، والسمو الذي وصل فيك حد الشبق لا يفتر أبداً وهذه هي سطوة العقل فيك.. أن
تستخدم جنونك لاستدراك ذاتك ثم تطفو على سطح الحياة بعد أن تكلل إنجازاتك بالألق وتتعلم أبجدية المقاومة وتحل نعش اليأس على كتفيك مبتسماً لتُلّحده الماضي وتسكنه مقابر التاريخ.
وهكذا تسير الحياة من ولادة فكر إلى موت عقيدة ومن انقضاء آجال إلى انبثاق دروب حياة متراتبة، لكن فكرة الفناء هنا طاغية وليست قيد الولاية.
ولكي تُصلي على سجادة الطمأنينة ركعات التماهي والذوبان في غابر أمسياتك الساكنة.. عليك أن تقرأ الطريق إلى الله في هذا الكون وتذكر دائماً أن الطريق إليه يبدأ من نفسك وأن الطريق إلى نفسك يبدأ من الله.
البشر يجهلون تماماً إمكانية السيطرة على النفس لأنهم لا يتوددون إليها ولا يحاولون ترويضها لأنها من الجموع، بحيث لا تُسرَج إلا بالصمت المذبوح بغاية الرجاء.
حاذر أن تصهل روحك خارج حدود إنسانيتك لأنك ستتحول من إنسان تسكنه العواطف إلى عاصفة تجتث إنساناً إلى الموت.
وبين هذا وذاك ستفقد متعة الحوار الرشيق الذي يدور بينك وبين نفسك وسينقطع حبل المواساة والدلال الذي كان يشدك إلى ذاتك، فلا تحاول أن تنسلخ عن كينونتك واحتمال القدر في أن تصبح إنساناً يحترم قيمة نفسه.
ألطاف الأهدل
جُنون المُستحيل 1854