لعل من حقي كقارئه جيدة لهذا الواقع الأعمى أن أسمي الكذب بالجريمة، لأنه من الأسباب التي تقود إليها، ومن أهم القرائن التي تثبت وقوعها، ومن أقوى الأدلة التي تدين فاعلها أن الكذب مفتاح الغدر وأداة الخيانة وهو جسر الانتهازية المتصدع.. وبئر الخطايا الضحل.. وكثير من الرذائل التي لا تنتهي، وفي كثير من الأبحاث المقدمة في مجال الجريمة كانت نتائجها دليلاً قاطعاً على أن "90%" من الجرائم تبدأ بالكذب لكنها تنتهي بما هو أعظم منه إنه حكم الإعدام أو السجن المؤبد، وحتى لو كان هذا الإنسان الكاذب محترفاً للكذب ويجيد إخفاء التفاصيل التعبيرية ونجا بكذبته من العقوبة، فإنه بالتأكيد سيعيش أسيراً تحت ظلها عمره بأكمله.
ولهذا فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم، في أحد الأحاديث النبوية الشريفة يجيب عن سؤال للصحابة يوردون فيه صفات المؤمن ومن ضمنها صفة البخل فيقولون: يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلاً قال: نعم، لكن عندما سألوه عن الكذب، أيكون المؤمن كذاباً قال: لا.
وبالرغم من فظاعة أمر البخل وما يترتب عليه من إيذاء لمشاعر الزوجة والأولاد والنفس أيضاً إلا أن المؤمن يمكن أن يكون بخيلاً ..ربما لأن البخل لا يقود إلى ما يقود إليه الكذب من رذيلة وتواطئ واستغفال لنوايا الآخرين وتصوير آدميتهم بسخرية على شاشة الواقع، خاصة حين يصبح الكذب حرفة أو عادة أو مرضاً عضالاً.
ومن المؤسف أن يكون الإنسان مصاباً بمرض الكذب هذا لأن الأمراض المعنوية لا تُشفَى أبداً وليس لها أعضاء ناتئة حتى تستأصل.. كما أن عقاراً غير عقار الإيمان القوي بالله لا يمكن أن يشفي فيروس الكذب الذي يملك حصانة معنوية داخل نفس المصاب كونه محمياً بقناعة الشخص أنه السبيل الوحيد للوصول.
ولعل الطريق في الأمر أجهزة فحص الكذب.. ولا أدري حقيقة إلى أي درجة يمكن الوثوق بها وأعتقد أننا بحاجة إليها في كل منزل لا لتستخدمها النساء في خنق حرية الرجل في التفكير بمرأة أخرى ولو في الخيال ولكن لاكتشاف بذور الكذب الأولى لدى أبنائنا المراهقين بالرغم من أن لدينا الخبرة الكافية لفعل ذلك ليس ذكاءً مفرطاً منا ولكنها خبرة الماضي وتجاربه وتفاصيله المضحكة والمبكية معاً.. وعلى كل حال من الجميل أن هذا الجهاز لا تملكه إلا أجهزة الدولة البوليسية، ويعتبر هذا الجهاز شاهد صدق على ما كتبت كون الكذب من أهم الأسباب الداعية إلى ارتكاب مختلف الجرائم، وبمجرد كشفه للكذب تتوالى الإعترافات لكل تفاصيل الجريمة طواعية دون عقابٍ تذكر.
والإنسان الكاذب يرى جميع الناس على شاكلته ولذا فهو شديد الحرص والحذر والتحذلق والتبرير أمام الآخرين على اعتبار أن الكذب سلسلة من المواقف الخيالية التي يستند صاحبها ببعض ظواهر ا لواقع والقليل من صفات الآخرين.
والكثير من الدراما الساخرة والكوميديا المبكية في قالب فهلوي كرية جداً.. ولعل البعض من الناس يستطيع اكتشاف قدرات الآخرين على الكذب وهذه نعمة تستحق الشكر.. ولعلي واحدة ممن يجيدون أكتشاف تفاصيل الكذب مرسومة بدقة على وجوه الآخرين.. وهذا لأني أملك قدراً من الفراسة ـ أحمد الله عليها كثيراً، البعض لا يرى في الكذب عيباً بل ويلونه الأبيض والأسود والفوشيا والبنفسج على أساس أن الأبيض والأسود ألوان عملية وأساسية وعلى اعتبار أن الفوشيا والبنفسج ألوان الروح والعاطفة وهذا الكذب خاص بمنطقة العاطفة في الكاذب نفسه وفي الناس أيضاً من يجعل للكذب قالباً كأن يكذب أثناء وجوده في منزله ويتعمد أن يتلبس بالصدق أمام الآخرين، لكنها دائماً لعبة قديمة ومكشوفة بل ومشوهة.. وعلى كل حال فجميعنا يرى الكذب رذيلة لكن المشكلة أننا لا زلنا نكذب.
ألطاف الأهدل
كلنا يكذب!.. 2187