حين نسرف في وصف جمال امرأة نقول: "كالشمعة" وحين نترف في الوصف نقول: "كالقمر" وفي كلا الوصفين جمال وهدوء وتوهج، لكن القمر يبقى قمراً لا تطاله أيدي الناس، ولا يكون توهجه سبباً في انقضاء أجله، كما يحدث في أمر الشمعة التي مهما أضاءت لا تبقى أبداً واقفة.
ولهذا من المفيد أن نشبه حالة الإيثار التي تميز بعض الأشخاص بتضحية الشمعة، التي تحترق لتنير دروب الآخرين كما قد قيل.
في نظري للشموع حضور خاص على موائد المحبين وعشاق الليل ومن يهوى التأمل المفتوح في زوايا الحياة من جميع جهاتها الأصلية والفرعية لأن شمعة صغيرة قد تشعل فيك الحياة من جديد!، والحياة التي أعنيها هي حياة الروح الظامئة باستمرار لماء العاطفة والجمال والارتقاء.
الشموع المشتعلة بصمت في أرجاء المنزل تبعث الدفئ والسكنية والأمل وبقدر ما توقظ من مشاعر وأحاسيس عملاقة بقدر ما تخفي من نزوات متطفلة كئيبة لا تتناسب مع حالة الاحتفال بوجود مولود صغير اسمه الحب، وهذا لا يعني أن المحبين فقط هم من يشعل الشموع إذ أن المحبين تحديداً يجب أن يطفئوا الشموع في ساعات الألق المتناهية!، لكن غير المحبين تبقى شموعهم مشتعلة حتى إشعار آخر!!.
وسواءً كنت ممن يحب بعينيه فقط أو ممن يحب بكل جوارحه.. فالشموع درس يجب أن تتعلمه في مدرسة الحب لأن الشموع وحدها تعلمك البقاء واقفاً، ووحدها تعلمك الاشتعال والانطفاء بصمت، ووحدها تعلمك البكاء بشموخ لأنها وحدها من تبكي واقفة، ووحدها تعلمك أن ضعفك يمكن أن يكون هو سبب قوتك، لأنها تصنع من ذوبانها مهرجاناً مضيئاً لنا، ووحدها من تعلمك فنون القتال ألا تراها تختبء في العتمة حين تهب الرياح حتى لا يرانا لصوص الليل نذوب خلف ظلها؟!.
الشموع وحدها من تغتسل بماء أعيننا، وحدها من يعزي جفوننا بالسكون، وحدها تعلمنا لغة الذوبان حين تبقى رؤوسنا مشتعلة بالفضيلة وأجسادنا ذائبة في فطرةٍ بريئة، وحدها من يرينا العالم بعين حائرة لأنها تشتعل وتنطفئ ونحن لم نغمض أعيننا بعد! خلف ضوء شمعة صغيرة يمكن أن ترى عالماً غريباً يختلف عن ذلك الذي تراه أمامها لأن ما خلف الشمعة عالم مظلم لا تراه، بينما تقف أنت بكل ما فيك من وهج أمام شمعتك التي قد تصورها لك نفسك على أنها أنثى!!.. وهنا لا يجب عليك أن تتفقد ربطة عنقك أو تلمع مقدمة حذاءك أو تعيد ترتيب تلك الشعرات النافرة بفضول دون أنفك.. لأن النساء مثل الشموع تماماً يضئن فقط.. يضئن دون أن يتلصصن حولك، ولا يستهويهن رؤية الذئاب الجائعة حين تكون الحملان بلا كلب حراسة!!.
الشموع مثل النساء في طلاسم الاحتراق والانطفاء وعوالم الظهور والاختفاء ومواسم الهجرة والانطواء، وحتى لا أذبح إنسانية المرأة على خشبة الجزار.. النساء مثل الشموع اشتعالاً فقط لأنهن لا يعرفن الانطفاء أبداً حتى عند هبوب الرياح يشتعلن ذاتياً.. فتضيء صدورهن بالكبرياء.. ويقتربن من طرق أبواب المستحيل بلا خوف ولهذا يحصلن دائماً على ما يتمنين ثم يطفئن الشموع متى شئن بأيديهن وقبل هبوب العاصفة.
الشموع أسطورة صغيرة أعيشها كل يوماً "برضاي"، رغم أن مصابيح الكهرباء المقيتة لازالت تضيء سماء بيتي بجرأة غريبة، لكني أحب الشموع.. فهي لا تقتل الوقت، ولا تفضح الأمنيات، ولا تردد رسائل التضحيات الكاذبة في سطور النهار لتعلقها بلسان الفضيلة كل مساء، يكفي أنها تفنى بين أيدينا بعد أن تؤنس وحدتنا بصدق وهي تذوب مرهقة، يكفي أنها تخفت عندما تسمع أناتنا وتطلق وهج فتيلها وهي تتلصص ضحكاتنا، يكفي أنها علمتنا البوح حين كان الصمت محراباً لنا، وأهدتنا الدفء عندما تجمدت أطرافنا في عزّ الصيف، يكفي أنها تشتعل وتنطفئ متى أردنا ذلك دون أن يعبث بصبرنا الطويل وانتظارنا المرير.
شكراً لذلك الإنسان الرائع الذي صنعت يداه هذه الشموع، وشكراً للشموع التي أهدتنا روعة الإحساس بالمساء، وشكراً للذين أشعلوا أمسياتنا بالأرق وجعلوا ليلنا مضيئاً بنجوم الأرض الواقفة.
ألطاف الأهدل
الشموع لا تبقى واقفة! 2647