في تعز يستطيع المرء أن يحيى حالة حب قصوى مع كل ما حوله من جامد ومتحرك لأنها فعلاً بوتقة عشق حقيقة وإناء أمنيات عذبة لا يستطيع الإنسان أمامها إلا أن يركع لخالق هذا الذهول العظيم، تعز هذه الجميلة النائمة في أحضان التاريخ، الناعسة بين يدي الحضارة، الملكة المتوجهة التي لم تكشف عن ساقيها بالرغم من أن لجين الأرض دونها ذائب خجلا، قطعة السكر الذائبة على لسان صبر أسكرت فينا لمم العقول المترفة بالضجيج وأشعلت فينا الإحساس بالدفئ وكأن شوارعها جذوة شعر مشتعلة تسبح حروفها مع نسائم الليل والنهار لتبهر المادين عبرها ومنها وإليها بالكير من رهف المشاعر ورقيق الإحساس.
كم نحب قممها السامقة، وسهولها النابضة بنكهة الخبز البلدي وأجواءها المشحونة بغبار الطلع ودخان أفران الحياة الراكضة خلف لقمة العيش المغمسة بالتعب، ومع هذا لذيذة.. لذيذة هذه المدينة التي شهدت ولادة المبدعين والمثقفين وأولئك الذين يحملون على أكتافهم أمنيات بعيدة بعد الشمس عن صفحة الأرض، والآخرون من البشر خارج نطاق المكان والزمان تبكيهم رمال الأرض ونعي موتهم حصى الوديان اليتيمة من خرير المياه.
يالهذه الساحرة التي تنفث في عقدة الوطن حتى تحيل قلوبنا واجفة من شدة الشوق لأرض عرفتنا منذ أن كنا صغاراً ولم نشهد ولادتها حين كانت جنيناً في رحم الكون صراخها صدى، تعز مدينة الألف نمط، والألف ثقافة، والتي ترى فيها خليطاً من جميع الثقافات التي تنتشر في جميع أنحاء الوطن، جوها المعتدل يغري سكانها وزائريها ومن يتوق لرؤيتها بالوصل القريب رغماً عن زحمة شوارعها واكتظاظ حواريها بالسكان وحالة التلوث اليومية التي يعيشها ا لناس بصمت منقطع النظير وهم تينقلون عبر عرباتها وباصاتها وموتوراتها إلى الأمام دون أن ينظروا إلى الخلف ولو نظره واحدة، جميلة رغم عتاقة أسواقها واختناق مداخلها الرئيسة بالمصانع وأكوام المخلفات ومحاوى المهمشين الكريمة ليس بشكلها فقط بل بمعناها الطبقي الذي لا نحب أن يكون موجوداً في مجتمع محافظ مثل هذا المجتمع، دافئة جداً بمقاهيها المطلة على الأرصفة وكبار السن ا لذي يرشفون الشاي والقهوة بمنتهى المتعة وهم يرقبون حركة البشر على شاشة الواقع.
أحبها لأنها شهدت ولادتي الفكرية وكانت حاضرة عندما أصبحت أماً وحزنت علي حين عدت بخفي حنين يوم التقى الجمعان في معركة غير متكافئة جعلت فيها حكماً بلا صفارة إنذار ولكنها أيضاً بسمت في وجهي يوم عبس الناس ومنحتني عكازاً أتوكأ عليه لأكتب أحرفي إليكم وأهش به الفضوليين من البشر عن وجه أوراقي حتى لا ننسا من رغبتهم في كسر شوكة الفكر أبداً.
في تعز أشعر بشموخي لكنني أيضاً أنكسر أسفاً حين أشعر أن هناك من يحاول العبث بسكون هذه الجميلة وإقحامها في خيمة سياسية سوداء يمكن أن تقتلها الرياح لأنها بلا وتد، أو حين أرى من يحقن شبابها وشاباتها بمخدر الغفلة في موجة لؤم عابثة اتخمت المجتمع منذ زمن حتى بدأ ساكناً بلا حراك وحين تدور الأرض بأكملها دون جغرافيته المحدودة جداً جداً الضيق والاختناق، أو حين تخلط بعينيك من يسرق آدمية الناس ويسحق كرامتهم ويدفع بحاجتهم للحياة إلى أودية الموت فقط لأنه يملك الكثير مما لا يمكله سواه من الناس، أو ربما حين أذوب كمداً وأنا التقط أنفاسي في رحلة عميقة بدأتها بمفردي وأنا أتشوق أن تصفق أيدي الناس حتى تسمع السماء والجبال والأرض والدواب أن من الظلم ما يفتت الصخر ويذيب الحديد لكنه يمنحنا الأمل لنبدأ من جديد.
ألطاف الأهدل
قطعة السكر.. تعز 2505