ليس من العيب أن نتقهقر حتى نقف بعيداً عن ساحة الحب، إذ لن يحالفنا النصر ونحن لا نملك عدة ولا عتاداً إلا هذا الضعف الذي يتملكنا حين يطفو شبح الحب على وجه بحيرة الأمنيات ويجدف بنا قارب الأقدار ليضعنا بين يديه عنوة.. وفي النهاية كلنا يرهب الأشباح مهما كانت ناعمة.
نعم ليس من العيب أن نترك ساحة المعركة الوردية- حين نشعر أن باقات الأزهار التي كنا نخفيها خلف ظهورنا لمنحنها من نحب ذبلت- ونحن في انتظار تأشيرة دخول واحدة إلى أرض قلوبهم لكنهم يجعلوننا دائماً على حدود حياتهم الخالية من الهرمونات الغنية جداً بذكريات الزمن البعيد، ليس عيباً ان تنسحب جيوش مشاعرنا ونرفع راية بيضاء، لكن شريطة أن لا يكون هناك رهائن، لأن تبادلها سيكون مشروطاً بالموت في أبسط الحالات.
كلنا جرب الركض خلف مشاعره، لكن القليل من عانى من مشاعر راكضة خلفه والفرق كبير بين أن تموت جوعاً أو أن تأكل بكلتا يديك الشيء اللذيذ والمشترك بين الأمرين أنك تبقى جائعاً في الحالتين معاً.
وحتى لا تذبل الأزهار وتموت يجب أن نخلدها خلف إطار رائع من الصبر الجميل وغلاف شفاف من الود وربطة أنيقة نذيلها ببصمات شفاهنا ونحن نقبل الأيام الأثيرة من عقد الزمن، حتى لا تذبل الأزهار يجب أن نحيط سواعدنا بالدفء، نحتسي خمرة المعقول في أيام الجدب، نجثو على رفات الغدر دون أن نتلو على الماضي تعويذة الموت أو نذرف الدمع على باب الرجاء أو نتوسل الصمت حين يتبعثر الكلام.
كل حروف اللغات تنضح بالحياة إلا لغة الصمت تنضح بالموت، تعرينا من النضج ولا تبقى على أجساد آهاتنا إلا قشوراً شفافة تشبه تلك التي ينكسر خلفها ضوء القمر عند شرفاتنا العتيقة.. وحين يصهل جموح أناملنا وتعترينا نوبات الحنين إلى مقابر الصمود فينا تصبح مراسيم العزاء طافية على رؤوس أصابعنا، عندها فقط قد نستطيع شنق هواجسنا الرخيصة وإرسالها هدايا مفخخة لأولئك الذين أساءوا الوصول إلينا.
أشعر بشظايا عمري تتطاير هنا وهناك حين استمع إلى صوت امرأة عبرها تفي بالكاد أسمعه وهي تطلق حممها الحزينة على قلبي لتشكو غدر حاضر أو خيانة ماض وأجدني أهمهم على مكتبي، أطرق رؤوس أقلامي بعضها ببعض لأثير غبار الحيرة في داخلي دون أن أشعر، لماذا تضحي النساء بكل شيء عندما تحب ولا يضحي الرجال إلا بخروف العيد؟!.
أحياناً أشعر أنه لو كانت مشاعرنا ملموسة لأخذها هؤلاء الرجال "آباء، أزواج، أبناء، إخوة" ولحاولوا إيداعها ضمن حساباتهم الخاصة.
وربما عرضوها بضاعة مزجاة في سوق نخاسة رديء، أو ربما أجمعوا أمرهم عليها، فجعلوا لها خندقاً تحتضر في ضيقه حتى الموت، أو ربما وأدوها صغيرة حتى لا تكبر ويكبر فيها كل شيء إلا إحساسها بأنها أنثى!.
يا لهذه الحياة كم علمتنا الاحتراق وهي قابعة على عرش من الجليد، يا الله ما أقسى أن نعود من معارك الحياة بلا نصر أو شهادة!.
سيدي ذات الصوت الحزين.. أعلني تقهقرك إلى الخلف، لكن أبقي عينيك دائماً إلى الأمام ولا تجري أذيال الخيبة، بل اسحبيها وأنت صامدة، فمن يدري ربما لا تكون هذه هي المعركة الأخيرة.. وما دمتِ تسيرين على الأرض لن تحرمك الأيام من طعم الحزن.. ابتسمي فقط ولا تعرضي بضاعتك حتى يتوفر الطلب.. لأن أسواق الحب الصادق أصبحت كاسدة واستعدي لمواسم الذبول القادمة بباقة رضا.
ألطاف الأهدل
لماذا تذبل الأزهار؟ 2069