لا ينام السياسيون والمثقفون على فراشٍ واحدٍ أبداً لأن هوية البحث عن الحقيقة تختلف تماماً عن هواية إخفاء الحقائق وتلوينها وتقديم القبيح منها كقاعدة أساسية للعيش في ظل حكم مزدوج بين مبدأ وعقيدة، قانون وعرف، فكرة وثبات،وكل هذا في قالب واحد ، التوجه الديني الذي بدا متشتتاً في جميع أنحاء العالم خلال الخمس سنوات الأخيرة بين سنة وشيعة، صوفة وأقباط وسلف وجماعات أخرى لم يكن لها هذا النفير من قبل تؤكد باستمرار على فشل الحكومات في احتواء أزماتها الدينية وعدم قدرتها على إفشاء مبدأ الديمقراطية ومحاولة التوفيق بين تلك الاتجاهات المختلفة.
هذا اللغط الذي أضحى مهدداً بالانقسام والتشتت في إطار الوطن الواحد، من أكبر الأدلة على أن الإسلام هو الحل الوحيد لأنه المبدأ السماوي الثابت، الذي حرص على إعطاء حق التباين الديني للجميع ولو على بقعة جغرافية واحدة.
الثقافات الدينية المنتشرة ورشة البهار الحارة التي تضفيها سياسات خارجية مأجورة لن تهدأ أبداً إلا بوقفة سياسية محنكة تعتمد على بطانة دينية ذات مرونة عالية ودراية عميقة بما تفعل، ليس من السهل تحديد تلك الهوية الغائبة في غيابة التطرف والغلو والانقسام، لكن من السهل جداً تحديد اتجاهاتها كونها واقعة تحت تأثير سياسة عالمية شاملة ومن غير المعقول أن تسير قطعان الماشية إلا إثر راعيها.. غير أن الخوف من تحديد تلك الهويات لا يزال مسيطراً بقوة الحديد على عروش ودهاليز الحكم المحلي والعالمي بحيث يتم تصوير الأوضاع الراهنة خلف نظارة سوداء بقدر ما تحمل من الغموض إلا أنها أكثر وضوحاً مما يحدث خلف كواليس السياسة نفسها.
لقد حمل لنا التاريخ الكثير من تلك القصص حول يمين ويسار الديانات والثقافات الاجتماعية بل وأنظمة سياسية قامت ولم تقعد إلا ميتة بينما كتبت الحياة لأنظمة أخرى لا تزال قيد الانتظار.
ومن الغريب أن نسمع عن هذا الانقسام الديني في مجتمع مثل مجتمعنا اليمني إذ لم تسيطر عليه شهوة العنف كما حدث في غيره من المجتمعات كأنه لا يعاني من فكرة التوحد الديني بل على العكس من ذلك تماماً، يمتاز مجتمعنا بالسكينة الدينية والقدرة على استشفاف الواقع لأنه يمتاز بحساسية قوية تجاه المتغيرات العقائدية ولديه قرون استشعار قلبية إزاء التطرف والفساد المعنوي.
وليس من المنطقي أبداً تعليب وتغليف طفرات الشعوب وإلحاقها بسلة محذوفات القرون الأولى لأن تلك الطفرات تشكل إرهاصات لمنعطفات قادمة قد تعمل على إظهار الحقائق بشكلٍ أفضل.. الخوف السياسي لا يحمل الكثير من المبررات من احتمال الانقسام والذوبان في أنظمة أخرى، لكن الخوف الديني قائم باستمرار وله مبرراته المدعومة بقوة العقيدة، إذ يمكن أن يقتتل الناس في سبيل تصحيح عقائدهم لدى الآخرين، لكنهم لا يقتتلون لتصحيح أنظمة حاكمة أبداً، هوس البحث عن أسباب لإيجاد معترك عقائدي متطرف مرفوض تماماً في مجتمعنا اليمني إذ أن للجميع هوية دينية واحدة والداخل بين بطانة الحكم وقشرته خاسر لا محالة إذ لا يعاني مجتمعنا من انفصال الدولة عن الدين.
بل إن هناك تواؤماً عجيباً بين الحكم السياسي والعقيدة الدينية في مجتمعنا، والأمر يتضح بجلاء في الكثير من الأزمات التي تعرضت لها بلادنا في سنواتها الأخيرة الماضية، والجميل في مسألة التوازن السياسي الديني الذي تتميز به بلادنا هو ذلك الثقل الذي يعطاه الحضور الديني على كافة المستويات.
إن مساحة الديمقراطية السياسية متوازنة تماماً مع مساحة الديمقراطية الدينية التي تعطي أصحاب النفوذ الديني فرصة جيدة لاستخدام الدين كحل مؤكد لمواقف تاريخية صعبة عاشتها اليمن، وكما أن للسياسة عالمها الممكن فإن للمجتمعية والوجود الإنساني الثقافي عالماً من اللاممكن والذي يكون فيه الدين صمام الأمان بينهما كعالمين مختلفين تماماً عن بعضهما بالرغم من أن السياسة ثقافة اجتماعية يراها الناس عادلة إلى حدٍ ما .
هذا التزاوج الإيديولوجي السياسي يفرض نوعاً عاماً من الأمان الاجتماعي في مجتمعنا اليمني لأنه لا يشبه سياسة العزل التي تقوم عليها مجتمعات متقدمة أيضاً.
نحن ننعم في اليمن بهذا المزيج الهادئ الذي لم يشهد تقلبات متطرفة بالرغم من بزوغ بعض الحالات النادرة التي تدعو إلى الطائفية والتشتت العرقي البغيض إلا أن الهوية الإسلامية القوية وسياسة التوسط والاعتدال التي يتميز بها هذا المجتمع عملت على تجاهل تلك الطفرات وتهميشها والنظر إليها كحالات شاذة غير قابلة للقياس.
وبين هوية الأصل وهواية التأصل تقف ثقافة المجتمعات على مقعد متأرجح حتى تصل في نهاية المطاف إلى تحديد البعد الحقيقي لمهامها المختلفة.
إن هذه العقيدة الراسخة والقدرة على إرسائها بعمق جيلاً بعد جيل كانت هي الدعامة التي لم تستطع رياح التغيير في وجودها تقويض الكيان الإنساني اليمني بجذوره المختلفة، ومن المهم جداً أن يعمل الجميع على الحفاظ بقوة على هذه الخلطة المتناغمة ذوقاً ومعنى بالبعد عن إثارة الصخب حول معتقدات الناس أو الرضوخ لتلك الدعوات التي تنسف دور التفاعل بين الحكم السياسي والنفوذ الديني متناغمان سوياً في إدارة شؤون الوطن.
العبث الذي يفتعله المخربون بغية القضاء على أمن واستقرار الحكم في اليمن يعتبر كافياً لسحب هوية المواطنة منهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم، فمن يحاول التنصل من أداء الواجب الوطني القائم على الحفاظ على معتقداته وموروثه الديني أو الاجتماعي أو السياسي وعلى أصحاب الأقلام أن يجعلوا من أقلامهم رايات بيضاء داعية لنشر السلام وتأصيل الهوية الدينية والوطنية كونهما توأمين ملتصقين لا ينفصلان أبداً وأن أي محاولة للفصل ستؤدي إلى وفاة أحدهما أو ربما كلاهما.. من يدري؟!.
ألطاف الأهدل
السياسة الإيديولوجية في اليمن 2103