في ظل شهوة التحدي وهستيريا العظمة ومراهنة القائد على البقاء على حساب شعب بأكمله.. بلد يتمزق أو يكاد في ليبيا الحرة..
يبدو أن ثورة "الفيس بوك" بدأت تترنح في المنطقة أمام جنون القذافي وإصراره على التسلط؛ حيث مازال زعيم ليبيا مصراً على الصمود أمام عاصفة التغيير العربية غير آبه البتة لدماء الشعب الليبي المراقة بالعنف وتحكيم البندقية، بعد أن عملت الغطرسة القذافية كل ما بوسعها لتحويل التظاهرات السلمية إلى مواجهات مسلحة.. ذلك حين تدور الأيام بسوء العاقبة والختام ويتحول الزعماء إلى مصاصي دماء وقادة الثورات إلى مجرمي حرب؛ يؤثرون العنف على خيار الرحيل..
لقد آثر العقيد القذافي أن يموت كالأشجار واقفاً ولو غادرت الروح السياسية نظامه، اختار تدمير بلاد بأسرها مقابل انتهاء سلطته، أن يظل على قدميه بعد أن أصيبت كل أوراقه بالخبول وتقرمدت كل جذوره، مصراً على تنفيذ وعيده ليشعل في البلاد الخراب "شبراً شبرا، بيتاً بيتا، زنقة زنقة"، تحت دعوى التحرير الزائف في مخيلة شاخت حد الجنون..
من ليبيا المواجهات إلى يمن الاعتصامات وتخاذل الشعب وخذلان المشترك وورقة القاعدة وهجماتها التي يبدو أنه تم إيقاظها مؤخراً.. هنا حيث بدت وجهات النظر المتباينة، المتناقضة حد الانقسام وشطر الشارع إلى توجهات وان كان التغيير يوحد كل الرؤى كهدف، وسائل الوصول إليه تفرق النخب الوطنية والحراك الشعبي وتثير تخلخل أوساط المواطنين..
في صنعاء سائق دراجة نارية يريد التغيير لكن بقاء الرئيس صالح على السلطة أمر لابد منه.. حديث متناقض أثناء قيادة متعرجة لعربة تسير على إطارين جعلتني لا أهتم لحديثه خشية حادث مروري أو الارتطام بحائط، محثاً إياه على توخي الحذر بين الفينة والأخرى.. سائق الدراجة يؤكد رغبته في التغيير مع تمسكه ببقاء رأس النظام رغم أنه ظل طيلة القيادة في مشوار على حسابي شارد الذهن؛ عين مع الطريق والأخرى تطيش خوفاً، تترقب مصادرة مصدر رزقه أو اختلاسه من قبل من أسماهم بلاطجة الدولة بذريعة انه يقود دراجة بلا خوذة..
صاحب "السيكل" يريد التغيير لأنه سئم الوضع ـ حد قوله ـ ويريد بقاء الرئيس خوفاً من الحوثي والحراك الجنوبي، القاعدة وسلطة حميد الأحمر أو نفوذه في المستقبل ـ حسب تعبيره.. ثقافة بسيطة لكنها تعكس تفاعلاً مع التغيير الذي يحشد زخماً يومياً في شوارعنا، معظمهم يفتقر لخلفية سياسية عميقة الرؤى وآخرون يفتقدونها تماما كما هو الحال مع مؤيدي النظام أيضا ..
في ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء، حيث تجد إجماعاً على إسقاط النظام ورحيل رئيس الجمهورية، يؤكد الزميل/ هاني المحويتي أن أحد المحتجين لدى حديثه لمراسل وكالة "رويترز" فسر تواجده في الساحة مع المتظاهرين المناهضين للسلطة، بأنه بغية في إسقاط النظام وحين سأله الصحفي عما إذا كان ممن يريدون رحيل الرئيس أجاب بالنفي، إذ مطلبه مقتصراً على إسقاط النظام الفاسد ـ حد تعبيره.. كان ذلك قبل أن يسارع أفراد من اللجنة الأمنية للشباب المحتجين بضبطه وإخضاعه للتحقيق باعتبار أنه من المندسين بينهم ..
ما لم يكن الشاب مندساً فعلاً، فالموقف يشير إلى إجماع على التغيير، لكن مع تباين الطرق لتحقيقه وذلك في تعدد المطالب المختلفة للساخطين على السلطة والمتذمرين من الأوضاع في ظل الفساد..
ترنح ثورة الفيس بوك التي لم تعد تحظى بتغطية إعلامية عربية ودولية كتلك التي حظيت بها ثورتا تونس ومصر وليبيا، أثارت ارتباكاً في الشارع حيث قفزت التباينات في الرؤى إلى الواجهة، فحين يتناقش راكبان في حافلة تجد الانقسام الواضح، فالمواطن لم يعد يتفق مع نظيره في الجدل على رأي واحد حتى على مستوى أكثر دقة، فمنهم من يؤيد رحيل السلطة دون إسقاط النظام وأخر على العكس تماما.. في إحدى الحافلات كان السائق يجادل بحدة يريد رحيل النظام ورموزه بالمرة غير أن صور الرئيس ملصقة على زجاج نوافذ سيارته ومدرس ينشد إسقاط السلطة، لكنه يخشى ما قد يحدث مستقبلاً بعد ذلك، يظل مصراً على مطلبه تضامناً مع المحتجين حد تفسيره وتلبية منه لإملاءات حزبية.. صاحب متجر وبائع خضرة بالأمانة صنعاء كاد الجدل ذاته بينهما وخشية المصير وعدم مبالاة أحدهما بما قد يحدث مستقبلاً أن يؤدي لاشتباك بالأيدي بينهما..
مع التغيير، حيث مواطن يبدي تذمراً مما يجري؛ ابنه يذهب المدرسة كل صباح ليعود خائباً بلا فائدة، فالمدرس يشارك في التظاهرات والأب يطالب باتخاذ الإجراءات اللازمة بحقه، إذ كيف لمعلم يتقاضى راتباً شهرياً الإخلال بعمله أو عدم إتقانه..
فيما يخشى مواطنون من مطالب تريد تطبيق النموذج التونسي والمصري بحذافيره، إذ يعتبرون الإصرار على تنفيذ مطالب ذات السقف الذي لا حد لارتفاعه قد تجلب النموذج الليبي كخيار لا يمكن الحيلولة دونه، البقال "الريمي" بالعاصمة يريد التغيير، لكنه يرى من مطالب المناوئين للسلطة متطرفة ـ حد وصفه ـ فهو يؤيد بقاء الرئيس حتى انتهاء مدة ولايته في 2013 وإذا ما أصر الرئيس على خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، فالشعب كله سينتفض بل أن الشارع ـ حد قوله- قد يؤثر الخيار الليبي أو حتى الصوملة في ظل إعادة الرئيس انتخاب نفسه..
صاحب مكتبة ومالك محل أستوديو تصوير بالأمانة يوافقان بعض المراقبين السياسيين في الرؤى، حيث اقتصرت مطالبهما على نقاط بعدد أصابع اليد، تجد مواطنون كثر يؤيدوها كما تجد لها معارضون، إذ يرون من الأفضل في اليمن إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة وحدة وطنية ومحاكمة الفاسدين ومكافحة الفساد والقضاء على الفقر والبطالة وتنحية أقارب الرئيس من مناصبهم مع ضمان التداول السلمي للسلطة بما فيها منصب رئيس الجمهورية، وهذا ما يعرفونه بمفهومهم بأنه بوابة النجاح لثورة التغيير..
لطالما كان الوطن العربي برمته بحاجة ماسة لثورة شعبية تغسله من درن الاستبداد وتريح الشعوب من كابوس تسلط الفرد والأسرة، كان لابد أن يحكمه التغيير من أدناه إلى أقصاه ولابد من تغيير أنظمة البلدان العربية جميعها بطرق تتناسب مع تغيير كل نظام، تضمن للشارع المستقبل الذي لا زال حتى اللحظة الراهنة غائماً، وذلك وفق وسائل ذات جدوى تضمن تحقيق كافة المطالب وتشق السبيل نحو المصير الأحسن ، إذ أنه إلى الآن لا يمكن الجزم بنجاح الثورة التونسية ونظيرتها المصرية وان بدت ثمار الثورتين في إزاحة زعيمي النظام في تونس ومصر، ذلك من منظور المستقبل والمصير اللذين لا يزال النجاح فيهما مرهوناً بمدى قدرة الشعبين على التغيير وتأمين ما ينتظر بلديهما.
عبد الحافظ الصمدي
التغيير.. والمصير الغايم 2611