كثيرة هي الكلمات التي تغادر أفواهنا بغير رجعة، لكن القليل منها فقط يصيبُ الهدف، والأغلبية ساقطة في مستنقع الغيبة والظن والإفك والبهتان.. وأما الكلمات التي لا تجد منفذاً للخروج، فتبقى نائمة على فراش الغربة، حتى تجد جناحاً تسافر عبره إلى وليفها وعندها فقط، تخفق قلوبنا بشدة ونعلم أننا وقعنا في الحُب.
الحُب أوله كلمات، لكن ليست كلمات من حروف، ليس لها نبرة من صدى الصوت المخبوء في حناجرنا، ولا تتبعها إشارات ناطقة بالرفض والقبول والتفاعل، لأن الحب ليس بحاجة إلى هذا القش المتراكم على ظهور الألسنة، ولأن الحُب لغة مختلفة عن هذه المفردات وتلك التلميحات، وذلك الزبد الطافي على وجه العلاقات الإنسانية.
إنه الشعور الذي يحرق ويطفئ، يجرح ويداوي، يصفع ويربت، هو كالوردة الحمراء، جميلة في مخملية لونها، بديعة في رقة قامتها، غنية بشذى مسامها، لذيذة في بهجتها، لكنها أيضاً تشهر الأشواك في وجه عاشقها.
الحُب كبير كالبحر، عميق كالرجل، مذهل كالأنثى، بريء كالأطفال عظيم كسنابل القمح، مفرح كالمطر، لكنه غريب كالسحاب، غامض كالقدر، صعب كالخيانة، قاسٍ كالهجر.. ومع هذا فهو ضرورة كالموت، مُلِح كالرغبة لا يكاد يبدأ حتى ينتهي، ولا يكاد ينتهي حتى يبدأ.. مثله مثل صدمات الحياة، قد تحيي وقد تقتل.
الحُب لا يعرف عجلة الزمن، ولا يعترف بحدود المكان، وليس له هوية، لأنه يولد مع كل طفل، ويغرد مع كل طير، ويتدلى مع كل قطرة ندى، ويذوب مع كل همسة ولَه، ولكنه وبرغم هذا الترف المعنوي والحسي للحب، إلا أنه أسوأ ما يمكن أن يحدث في حياة امرأة ورجل من تلك الطبقة المخملية، التي في الكلمات عالماً من كواكب ومجرات، شطآن وموج وموانئ وأرصفة وظلال، لأن هذه الطبقة من البشر يمكن أن تكسرها كلمة وتصلح اعوجاج مشاعرها كلمة.
أنا واحدة من الذين يتعاطون مع الحياة عبر ملامحها العميقة، لحظاتها المشتعلة بالحماس أو تلك التي تنوء بالفتور والموت وانقطاع الأمنيات، ولهذا أنا أؤمن أن حبنا للحياة لكل من وما فيها سهل جداً فقط إذا استطعنا تشفير رموزها وإدخال كلمة السر في وقتها المناسب، شريطة ألا نفرط في تدليل ما حولنا ونسيان أنفسنا من بعض ذلك الدلال الذي يعيد برمجة الواقع وفق قناعاتنا الخاصة مع بعض التعديلات الضرورية الغير عميقة، حتى لا يفسد مضمون المشاعر التي نحملها ونصبح ممن تبهره القشور أياً كان نوعها ومهما كان بريقها.
تلك الطبقة المرفهة بفكرها الوثير، الموشاة بفلسفتها الراقية، المتمتمة بفسيفساء معتقة من اليقين، المطعمة بخيوط الشفافية المطلقة.. تلك الطبقة التي أنا منها، وقد يكون من بينكم أيضاً من هو منها وبرغم تلك القراءة الصامتة في كل ما حولنا، إلا أننا لا نعرف طعم الحُب!.
نحن نجيد فن الكتابة ونرسم أمنيات البشر على أوراقنا، فتبدو أرواحهم بأجنحة من أطياف الفرح، يحلقون بها إلى حيث تستقر قلوبهم وهذا يكفينا، لأن سعادتنا هي أن يسعد الآخرون بنا.. أما نحن فما نزال نجدف بأقلامنا عبر بحارٍ من ورق ويعلم الله وحده متى سنصل؟!.
يصبح المرءُ أكثر وداعة إذا وقع في الحُب.. لكنه يتحول إلى حيوان شرس إذا ما خسر رهان مشاعره، وبدا مفلساً من كل شيء إلا الإخفاق!، ولهذا أرى أن تلك الأغنية "أهل الهوى مساكين.. عايشين ومش عايشين"، تحمل تصويراً بليغاً لحالة الواقعين في الحب المتجافين عنه.
ألطاف الأهدل
أهل الهوى مساكين! 2955