في انتظار وصول القاضي إلى المحكمة وقفت أتأمل وجوه الناس العابسة وهي بين استغاثتين إحداهما تخص أهل السماء والثانية يسمعها أهل الأرض، وبين هذه وتلك وقفت أنا، مرّت صور الظَلَمة والمظلومين أمامي كأحداث موثقة يشهد عليها إحساسي وتكاد لا تصدقها عيناي!.
"فطفط" اسم دلعٍ كريه جداً ألقاه قضاة المحكمة على امرأة عجوز تطالب باسترجاع أرضها منذ "40" عاماً، حتى أصبح بينها وبين المحكمة بمن فيها ألفة بلهاء ولو أن من يسمع شكواها من هؤلاء يسمع ويرى لما بقيت قضيتها معلقة على باب الظلم كل هذا العمر.
أحدهم يدس بعض الأوراق المالية فيجيب محاميه والآخر يهمس في إذن صاحبه وعلى مقربة مني "قل كذا ولا تقل كذا...." دروس في الظلم والكذب وخيانة لعهد الله وميثاقه نتعلمها حين تطأ قدرة البشر مساحة الضعف فيهم ويظنون أن لا رقيب يسمع ويرى.
سئمت من تأمل وجوههم بين ظالمٍ ومظلوم، فقررت أن أتأمل الخطوات والأحذية! لعلها لا تكذب، لا تحملق، لا تستثير الضعف بمنتهى القوة.. واكتشفت أشياء مضحكة وأخرى مبكية!، وحين تتأمل شيئاً من زاوية قريبة تظهر لك كل المزايا عيوباً وربما رأيت كل العيوب مزايا، الأغلبية العظمى من الناس ينتعلون أحذية أكبر من المقاس الحقيقي لأقدامهم وكثير منهم يعكسون القاعدة وينتعلون أحذية "صنادل" أصغر من المقاس المطلوب بدرجتين تقريباً والقليل فقط من يتساوى قياس حذائه وقدمه.. الشيء اللافت للنظر أن الجميع لا يهتمون بمسح أحذيتهم إلا في حالات شحيحة جداً.
قد يتهمني البعض بالسخف ولكني سأستمر في كتابة ما رأيته لأنني لا أبخل على أوراقي بإغداق كل حالة تأمل أن أعيشها أو تعيشني.
ما أحزنني فيما رأيت تلك الخطوات المتثاقلة في السير لدرجة أن أكعاب الأقدام المتشققة تشكل أخاديد غائرة يمكن أن تحدث الريح خلالها صفيراً!، وتلك السوق الركيكة لرجال ونساء يصعدون سلالم المحكمة ويهبطون منها برعاية الله وحده وكأن ملائكة تحف الضعفاء حتى لا يسقطوا أرضاً، فتستفيق السخرية النائمة في قلوب الظلمة والمعتدين.
يا الله.. كمن هو رحيم رب السماء والأرض إذ منحنا القدرة على احتمال الظلم حتى لا تتسخ زوايا أروحنا بهذا الزهم المتراكم حول أعين البعض وهم يظنون أنهم منصورون وأن جندهم هم الغالبون.
لكن السحاب لا تظل حبلى بالمطر، وأمواج البحر لا تبقى سامقة، والثمار المعلقة على غصون الأشجار، لابد أن تقطف، ولهذا لابد أن تأتي النهاية شئنا ذلك أم أبيناه.. ولو دامت لمن قبلك لما وصلت إليك.
حين مللت تأمل الخطوات الحائرة والأقدام الغائرة في وحل التعب قررت أن أقف بمحاذاة السلّم لأرى عبرة سقف الرؤوس الواثبة إلى قمة العدل والتي يكاد الدخان أن يتصاعد منها لهول مايجري بداخلها من غليان، فرأيت شيئاً عجيباً إذ كان "70%" تقريباً من الرجال يشكون من الصلع!، وأعتقد أنه يحدث قبل أوانه بالنسبة لعلاقته بالسن، فهل يا ترى هو الماء الشحيح أم أنه الهم الذي يرتديه هؤلاء صغاراً ليكبروا بداخله حتى ينسيهم أجمل ما فيهم..
إنهم بشر.. بشر من لحم ودم ومشاعر راقية.. وفي المحكمة تستطيع أن تحكم على نفسك، أي نوع من البشر أنت؟، هل أنت ممن ينام متخماً بالمظالم أم أنك ممن ينام جائعاً لرحمة السماء، مبتهلاً بالإنصاف، راجياً لفرج قريب؟!.. ليتكم تقررون حالاً أي الفريقين أنتم قبل أن تقفوا طويلاً أمام محكمة السماء.
"إذا دعتك قُدرتك إلى ظلم الناس.. فتذكر قدرة الله عليك".