كان وقت الظهيرة حين شكلت العربات على شريان الطريق وتراً يعزف لحناً نشازاً ذكرني بذلك اليوم الذي تركت فيه ملة قومٍ لا يؤمنون بأن الناس بشر من لحم ودم.. ذلك الضجيج الذي لم تألفه أذناي ولم يؤمن به قلبي ولم تصدقه حواسي، دفعني للدخول في معركة ربما خسرت فيها الكثير من عتادي، لكنني انتصرت إذ لم أخسر نفسي، بل كسبت ما هو أكثر من ذلك، أنني أصبحت أجيد قراءة أحداث حياتي بطريقتي الخاصة، دون أن أشرك الآخرين ولو بوضع نقطة أو فاصلة أو حتى علامة استفهام واحدة.
كسبت أنني ما عدت لأرفع أعلام الخيبة أمام أعدائي وتعلمت أنه يجب أن لا يكون لي أصدقاء لأنهم أول الواشين بي، حين يهتز عرشي وأفقد السيطرة على جيوش مشاعري.. فأمطر عليها دموع الألم بلا رحمة.. فتغرق مشاعري فيَّ أو أغرق أنا فيها، وفي كلا الحالتين لن ينتشلني من بحر أحزاني أحد.
كسبت عيناي اللتين غرقتا طويلاً في النظر إلى تقاسيم حياتي وأنا أحاول أن أشذب أقداري وأجمل المكتوب على جبهتي باحثة عن ممحاةٍ أزيل بها شوائب الأيام وبقايا أنّاتها الغائبة فيَّ، حتى اعتقدت للحظة أني اكتشفت شباك القدر، الذي تسقط منه الأحداث توالياً على رأسي، إلى أن آمنت أن قلبي مجرد شجرة تحط على أفنانها الصقور والنوارس والبوم والغربان والكناري، دون أن تصنع لها أعشاشاً لتبقى.. مجرد شجرة وكفى.. وإلى أن صدقت أن القلوب الفارغة يسكنها الهوى، كما أن الكؤوس الفارغة يسكنها الهواء، عندها أيقنت أن الطيور لا تحمل أعشاشها على ظهورها وأن القلوب كذلك لا يمكن أن تكون لها أجنحة..
الذين تصنعهم أيدينا وتلونهم أناملنا وتزخرفهم روعة إحساسنا، هم الذين يتعملقون فيما بعد ليصبحوا أكبر وأحقر لكنا لا يمكن أن نكون أصغر.. لا يمكن.
حين وصلت إلى الرصيف وخلال موجة الضجيج تلك رأيته على الرصيف المقابل.. بدا غريباً وبدوت أغرب حين حددت قبلتي ومضيت كأن ما انكسر داخل صدري وقع بمحض الصدفة ولم تحطمه يداهُ عنوة، كل ما يقع على الأرض يمكن أن يرفع من جديد، لكن ما يقع عالياً لا تستطيع جاذبية الأرض أن تعيده إلى مكانه أبداً.. أبداً.
جميعنا يحتاج إلى النسيان ليعود حياً كما كان، لكن القليل منا من يعيش لينسى، والأغلبية هي تلك التي تكذب وتتجمل وتحاول أن تمر بعيداً عن شارع الوشاية.
ولقد كنت أنت واحداً من الأغلبية، بينما بقيت أنا من أقلية مهمشة، لكنها تستطيع أن تنسى، بالرغم أنني وعدتك أن لا أفعل!.. وفي زمن تحكم فيه الأغلبية.. فإنني أؤمن أن ديمقراطية الكذب لا تنتصر أبداً على أرستقراطية النسيان، لأن الممالك تختلف تماماً عن الجمهوريات..
أنت أعدت إلي الإحساس بالوحدة وسلبتني حق الحياة بلا جراح وعلقت حبل الموت حول عنق أمنياتي، ثم تركت بشفتيك مقعد الحب دونها وتركتها على أرض الذكريات معلقة.. عبرة لمن لا تهزه العبرات.
أوشيتَ بي وأنت مني قريبُ
وفي شرع الهوى هذا مُريبُ
ونسجتَ حولي من أساطير النوى
أثواب تفضح خافقي وتعيبُ
ونثرت دوني من رماد قصائدي
ما ذنب شعري تدعه فيجيبُ
أنسيتني طعم المحبة عانياً
والحبُ ينسى إن رعته خطوبُ