كلنا يحمل داخل روحه ساحة للحرية ولديه في قلبه رغبة في التغيير وتنتاب عقله حالات عاصفة من الرفض لكل شيء يمكن أن يقيد حريته كإنسان له طموح بإثبات وجوده وفرض كينونته، ولهذا هو يثور باستمرار ما دامت القضبان حوله قائمة تحت مسميات كاذبة لا تمت للإنسانية بصلة، لأنها مقولبة سلفاً، بل ومحشوة بفكر فلسفي شاذ عن الواقع ومضغوطة بقوة التسلط، ولهذا تبقى قابلة للانفجار في أي لحظة.
ليس منا من تبهره الشعارات المعالجة بيولوجياً، لأنها تبقى عقيمة بقاء التاريخ، ومن هنا يسعى الإنسان إلى إيجاد الحلقة المفقودة ليعيد تشكيل دائرة الذات ويعود إنساناً حراً كما بدأ قبل أن ينتشر حوله عفن التبعية ويصاب ببكتيريا العبودية، ليموت تحت أقدام صنم صنعته يداه من عجينة الخوف والجبن والرهبة والذل.
كلنا يثور حين تتحطم أمام عينيه منظومته المتكاملة عن نفسه على أيدي الذين لا يرون إلا أنفسهم، نثور عندما ترتفع درجة حرارة الظلم من فوقنا ومن تحت أرجلنا ونجد من الصعب أن نطفئ تلك النار ببرودة الصمت، نثور عندما تصبح أمنياتنا جمراً تحمله أيدينا ورغماً عنا نطفئه.. نطفئه بماء أعيننا ورماد حسراتنا وعضات الندم الملتهبة على أصابع الأيام.. نثور ولا ندري كيف بدأ هذا الغليان في عروقنا، ولكننا نعلم إلى أين يذهب هذا وكيف سينتهي.
نثور لتتحد ذراتنا الظامئة للصقيع بصيفٍ داكن تختبئ خلف سحائبه موجات الغضب.. فتسقط على وجه المدينة زخات الإيثار والعنفوان والتضحية وتفوح رائحة الموت الزكية من حنايا القدر في طرفة عين.
نثور حتى يعود الشتاء، ويهرب من ضجيج أغنياتنا المساء، وحتى يختفي أنيننا وتحتسي الشوارع الدماء.. نثور كي تتمثل الساحات من صراخنا ويصمت الغناء.. نثور كي تحيى بلادنا وينتهي الشقاء.
ثورة حب عارمة، العاشق فيها شعب بأكمله، والمحبوبة يمن سعيدة بقصة الهوى التي تعيشها، لكنها تكاد تموت خوفاً أن يلقى عاشقها حتفه على أعتاب أبوابها المشرعة للرحيل.
رفقاً بهذه الطاهرة التي أقلّت على راحتيها الملايين واحتضنت في جوفها الآلاف ترعاهم بحنان الأمن ومنعة الأب وعزة القبيلة.
نثور دون أن نهدر التفاصيل العتيقة أو نريق المنصات أو نخدش المنابر، نزحف عبر الشرايين إلى منفى القضية ثم نعود عبر مسام الليل إلى ساحتنا، حيث ينتصب الشموخ وتجلس إلى جواره المنايا معلقة بالأمل.
لِمَ لا نثور وأطفال البغايا يحملون الغدر هدايا؟!، سلالات الملوك البيض يقبعون رعايا؟، نثور دون فوضى أو خناجر أو رصاص أو حتى أحكام قصاص.
ثورة من حرير الفكر وديباج العقل وسندس الروح وإستبرق الأمينات ثم نصحو وقد عاد أطفال الشوارع إلى الدور ونامت قريرة أعين الأمهات!، ثورة لا تقتل الحب، ولا تجرد الود، لا توئد الحق في مهد الحفاة، وتحيي الظلم في مهد الطغاة.
ألطاف الأهدل
ثورة ناعمة! 1972