شاءت الأقدار أن أترك منزلاً كنت قد لازمته سنوات طويلة حتى أصبح بيني وبين زواياه نوع من الود وشيء من الألفة.. كانت جدرانه مراياي التي تعكس صورة أفكاري ، ثوراتي، أنطفاءاتي، وكانت شبابيكه رسائلي إلى السماء وأبوابه أشرعتي التي تسير مع الريح طائعة، مبعثرة، كانت مشاعري حتى كدت مرات أن أتفرغ للبحث عن ذاتي وحين وجدت جدران قلبي موصدة تصالحت مع حزني وبقيت حبيسة ذلك المنزل المأهول بالذكريات الخالي تماماً من رائحة الحب.. تلك الزنابق البيضاء التي أشعلت أمسياتي بالدفى باتت ذابلة لا تنام خلف جدران شرفتي حتى نتقاسم سوياً أنا وهي أمتعة الحزن دمعة دمعة.. ثم أغفو على فراشي وتغفو هي على تربتها أملاً في إقتراب شمس جديدة لا تحرق أوراق ذكرياتنا لتصنع للشامتين هامة رمادية من ورق ورماد وبقايا أناث ثائرة.
كنت أتوارى خلف جدرانه حتى بدوت شبحاً أنيقاً لا أفزع الأرواح ولا أحطم شمعدان الحجرة المسكونة بالظلام ولا أسوق صرخاتي تترى لأوقظ فرعوناً نائماً في قلبي هويت غيابه أكثر مما أحببت وجوده! فرعون الذي جعلني ماشطة لأيامه ثم رحل.. ذلك المنزل صنع من أيامي تاريخاً عريقاً من الصمود وقدمني للمستقبل كثائرة، ولهذا كانت منصة الحكم من نصيبي أنا فقط!! وها أنا ذا أحكم شعباً أعزلاً من الكلمات لا يحمل في أسوأ أيامه إلا باقات الزهور، هاأنذا أعتلي عرش الامبراطورية الرابعة من عمر الفكر ولم يأتني بعد هدهد سليمان ولن أكشف عن ساقي حتى ينكر لي عرشي وأترك ملة اليأس التي جعلتني أبعد الأحزان دهراً.
في ذلك المنزل الذي لا زال متحفاً يزوره الناس كنت أعيش، حولي عصافير الكناري وصدري هو القفص ، وحين مللت الصراخ كقائد جيش يأمر جنده بالثبات حطمت صدري وأطلقت سراح عصافيري ودفعت الراية فقادتني قدماي أسيرة لتشتريني الدنيا وهاأنذا أسير في قافلة الناس من جديد بعد أن كنت أراهم مجرد دمى أتسلى بها وأنا وحيدة خلف جدران ذلك المنزل المقيت.
الجدران لا تخفي معاناة البشر لكنها أيضاً لا تنكس رؤوسهم وبالنسبة لي الجدران حكاية طويلة بدأت بورقة توت وانتهت بأبراج من الزجاج تناطح السحاب.
إنها ثياب البشر التي لا تمزقها الشمس أو تأكل أطرافها النار أو تلوثها بقع الصمت في رحلة الاشتهاء العقيمة، هي الصفحة الأولى لحكايات الناس، وهي الأشرعة الرأسية والسفن التي لا تغرقها ثرثرات البوح أو شكاوى الليل الطويل.. الجدران في نظري كتاب من الصخر لا تمزقه رطوبة التاريخ وتلغي حواشية بكبريا الجغرافيا.
أنا أصدق أن للجدران آذاناً وأعيناً وأفواهاً لكنها وللأسف صماء عمياء بكماء ولو صرخت لتمزقت أستار البشر ولبغى بعضنا على بعض! الجدران.. تلك الجدران وليفة أيامي وشاهدة أحزاني وأفراحي وهي من علمتني فن الصمت ولقنتني رسالة الكلام ومسحت على صدري حين كانت تجثم على قلبي أفراح الحاشية الفرعونية.. كم باتت ساهرة وأنا أنعم بالنوم في مخدعي وكم انتظرت قدومي وأنا أجوب مساحات الأرض بين وادٍ وجبل ثم أعود إليها بلوحات تحملها عني راضية.
كم صبرت وأنا أثقب جسدها مرات ومرات لأزين ذلك المنزل بلوحاتي وكم راعها كسوف ضحكاتي حين رحلت عن الدنيا شقيقة آهاتي.
الجدران في نظري صديقتي التي لم تفش سري، ولوحتي التي ترسمني، وبقاياي التي كلما لملمتها أصبحت كنزاً ثميناً، الجدران تلك التي تحمل شبابيكنا وأبوابنا وتحيط وحدتنا بالأنس دون أن تنقض أو تتزلزل أو تنهار كما يفعل الذين نحبهم حتى تعلمنا أن نكون سجناء قلوبنا وعقولنا وأن نحيط أفواهنا بالحرمان والذهول.. الجدران قصة حياة وموت وذكريات وئيدة من عروش وسبايا وأميرات نائمات وحاشية أوقعت بالعرش لتصنع المعجزات.
ألطاف الأهدل
خلف الجدران 2267