الزجاج مفردة ثراء راقية تشكله النار جنيناً لتصنع من رقائقه سبائك ثلجية باردة تشبه تماماً مشاعر الذين لم يجربوا طعم الحب ولم تكو أفئدتهم نيرانه.
الزجاج حلو الرمل الذي تذوب على حوافه الشفاه وهي ترشف ماء شرايينه صادية، وهو أثير الثراء والرفاهية لأنه عنوان الترف الفاحش والارستقراطية الفاجرة التي تتقلب على مجمل الطبقية الاجتماعية كإنثى لعوب، الزجاج إبريق الأباطيل الثائرة على بلاط الملوك وآية الفخامة المتناهية على عروض الأمراء، نحب فيه رقته الفاترة وشفافيته الملتهبة ولهذا نعد له رفوفاً ونلقح به سقوف الحجرات وزواياها ونتهادى كسفينة على الجليد حين يصبح بين أيدينا تحمله الجفون قبل الأيدي على كفوف الحذر.. هو الترجمة المادية لمشاعرنا لأن مشاعر الإنسان من الشفافية بحيث يمكن أن نستنشق ما خلفها من الحقائق أو الأكاذيب، تشبه الزجاج في أنها عندما تنكسر لا يمكن إصلاحها أبداً ولو حاولنا ترميمها تبقى شروخها واضحة تذكرنا بانتكاساتنا العابرة.
الجلد التي تغطي عورة هياكلنا وكذلك مشاعرنا حين تنكسر يمكن أن تجرح قلوبنا وتقطع أواصر الاختراعات البشرية ذات الامتياز لأنه سمح لنا أن نرى الحياة عبر شبابيكنا كما هي ولو باختراع ما يشبه في الشفافية ويفوقه في قوة الاعتمال ومن هنا ولد البلاستك لكننا لا نحبه بقدر حاجتنا إليه لأن الأشياء زاهدة الثمن لا تعلمك فن التعلق بها.
ولهذا يزهد المرء دائماً بما بين يديه ولربما كان فيه الخير كله ويتطلع إلى البعيد شوقاً إلى قربه ولو كان فيه الشر كله!.. الزجاج ثورة الموائد الفاخرة.. الثورة التي لا تريق الدم لكنها تحبسه في العروق اقتداءً بسنة الكؤوس المدهقة بالنبيذ في مجتمع الارستقراطيات العابثة.. وهو صولجان السحر في قصور التاريخ والأثر العميق الذي خلفه المؤثر الأول.. ذلك الذي صنع منه كؤوساً ومرايا عجيبة وسقوفاً مكونة وزوايا مثمرة بالدهشة.. كلنا يحب الزجاج لكن غالبيتنا لا يقتنيه لأن عمر أيامه قصير وليس منا من يهوى البكاء على الموتى!.
ولهذا ولدت فكرة الطرق على الحديد الذي أنزله الله "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للمعيشة والعيش معاً.. بعدها نسي الإنسان شفافية الزجاج وجمال تفاصيله وأصبحت مشاعره من المعدن.. قوية.. ذات بأس.. قابلة للطرق والسحب وموصلة جيدة للتيار الكهربائي الذي يسري عبر شرايين الناس ويقتلهم.. لكن يبقى الزجاج زجاجاً والمعدن معدناً مادام الإنسان هو الإنسان مخلوق المتناقضات وند الطبيعة وأعجب كائن دب على الأرض.. أقسى المخلوقات وألينها.. أصدقها وأكذبها.. أطهرها وأكثرها دنساً.. وهنا تبرز قيمة الطين الروحية والتي صنعها الإنسان أيضاً في ترجمة ملموسة المشاعرة الطبيعية النقية والبريئة حين عاش في مشاعية بدائية بلا رأسمالية ولا بيروقراطية ولا بروليتارية ثائرة.. كان طبيباً نقياً خالصاً مخلصاً لإنسانية.. يأكل ثمار الأشجار ويعب من مياه العيون ويواري سوأته بجلود الحيوانات التي رافقت حقبة براءته!.
أما اليوم وفي حقبة الشفرات والأرقام والتكنولوجيا المفرطة في الغموض، فإن المشاعر الإنسانية تطورت إلى الأسوأ وأصبح لها رموز وأرقام ومعادلات صعبة جداً لا تتفق مع ضعف الإنسان وسرعة فنائه وانتهاء أجله، لكنه وللأسف من أعتا المخلوقات وأكثرها تجبراً.. ليت مشاعرنا بقيت زجاجية حتى نستطيع رؤية ما خلفها من معانٍ ومفردات وأحكام.
ألطاف الأهدل
مشاعر زجاجية 2239