يعيش البشر في ظل عقولهم وبدونها تتصحر الحياة أمامهم ويصبحون كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ والماء على ظهورها! يغدون حيوانات أليفة تسير على ساقين لكنها غير معرفة من الخارج بغطاء حيواني مميز بل تصبح هي الحيوانات الوحيدة التي ترتدي ثياباً ممزقة! البشر لا يدركون القيمة العظيمة التي يعنيها وجود العقل، ولهذا يتعثرون باستمرار دون أن تستوقفهم قوة الصدمات ودون أن يعوا أبعادها أو آثارها العميقة.
لا فرق يذكر بين إنسان وحيوان إلا هذا السريان الكهربائي المصور بالألوان والمشاعر والمفردات المنسقة وفق الاحتياج اللحظي واللفظي والمعنوي المقصود خلال زمن معين وفي مكان محدد، وفي هذا العقل تعتمل أفكار المرء وتتحد طموحاته مع واقعه ومن بينهما تتسلسل الأحداث الداخلة إلى العقل والخارجة منه عبر حواس الإنسان الظاهرة والباطنة! المجانين الذين فقدوا نشق المعلومات المشفرة وفق مواقف الحياة المختلفة يعيشون حالة انعدام وظيفي لحواس الجسد وهم يحيون برزخاً عقلياً مؤقتاً بين ما هو كائن ومالا يمكن أن يكون.
المشكلة ليست في المجانين لأن القلم مرفوع عن هؤلاء ولهذا فهم كائنات من الجنة تنتظر صفارة الموت لتعود أدراجها آمنة، بل المشكلة في العقلاء الذين لا يحترمون وجود ذلك المخزن المعلوماتي الدقيق الذي ينام تحت أغطية شعثاء توفر له الحماية والأمن والشكل الجميل، ولاشيء ينفخ العقل ويغربل معلوماته وينقي استنتاجاته مثل العلم فهو الشعلة التي تضيء تجويف العقل وعن طريق المعلم فقط يستطيع الإنسان أن يفهم نفسه ويدرك ذاته ويعي الهدف من وجوده، بطريقة ما يفقد الإنسان أحياناً السيطرة ا لكاملة على عقله ربما لأنه يضيق الخناق حول عنق الوعي لديه ولا يسمح بفتح باب النصيحة والمشورة والأخذ بالرأي الصائب ويخطئ الإنسان كثيراً حين يسمع صوت نفسه فقط ويصم أذنيه عن أصوات الآخرين إذ أن الحياة البشرية خلقت لتستمر ضمن جماعة وفي إطار منظوم من التشريعات والقوانين المشتركة ولولا وجود الآخر في حياة كلٍ منا لما وجد الأول بالتأكيد.
من المجانين من يأسرك بعقلنته اللاواعية مثل ذلك المجنون الذي مزق أوراقاً نقدية قدمها له عابر سبيل واحتفظ بالورقة النقدية "الجديدة" التي قدمتها له أنا، الكل يحب الجديد حتى على مستوى أوراق العملة.. لكن من الناس الآخرين من يكون جنونه منتهى العقل وتعقله الشديد قمة الجنون وهما كمن يصمت حين يتحدث الآخرون ومن يتحدث حتى يصمت الآخرون وبينهما يقف جمهور من البشر، جماهير حاشدة من ذبذبات الحواس، ويقع المجانين والعقلاء في مأزق واحد هو عدم القدرة على تحديد آنية الحقيقة المطلقة وآلية بقاءها بصمود وفق تحلليهم العقلي والعلمي لها، والمعنى أن كلا الفريقين لا يستطيع رؤية الحقيقة من جميع جوانبها.
فبينما يراها المجانين صوراً متحركة بشخوصها وأماكنها المحشوة بزبد الفوضى وأزمنتها المتداخلة بلا انسجام في ذاكرهم، يراها العقلاء أحداثاً مميزة وإنجازات متفردة تخدم أهداف وجودها وتصنع لأصحابها تاريخاً مجيداً، قد يراها هؤلاء حياة ويبصرها الآخرون موتاً محتماً، قد يشعر بمعانيها هؤلاء ويجحد وجودها أولئك، قد يراها البعض سجناً ويعتنقها آخرون كمبدأ حرية.. بين العقل والجنون إشارة مرور واحدة، لكنها لا تحمل أي ألوان وقوف أو عبوراً أو حذر وأعقل المجانين من يجعل إشارة المرور خلفه ويمضي دون خوفٍ أو وجل.
ألطاف الأهدل
أعقل مجنون!.... 2158