في آخر الرصيف تقف الأمنيات والأحلام والآمال في انتظار العبور من عالم الخيال إلى عالم الواقع، ولكي تصل إلى عالمها المنشود لابد أن نطأ أقدامها أرض الألم والمعاناة والتضحية بمنتهى الحذر حتى لا يحدث التصادم بين معطيات الواقع المفروض ودلالات أو رموز ذلك العالم الآخر الذي ما من أحد منا إلا وعاش رهينة له ولو لزمن محدود.
في آخر الرصيف تقف أزهار أعمارنا يانعة لا تعرف الذبول، قوية لا تعرف الضعف، متفائلة لا تعرف اليأس، ونقف نحن على رصيف الحياة الآخر نذبل بصمت ونتلاشى ببرود، ننكسر ببساطة كما تنكسر قطع السكر بين ثنايا جائعة، نتألم حتى تموت الفرحة في أحداقنا، تكفنها جفوننا وتغسل أطرافها دموعنا وتصلي على جثمانها آهاتنا الحائرة.
ذلك الرصيف الذي حمل خطواتنا المثقلة بالأمل والألم وكان رفيقاً بكبواتنا، متسامحاً مع هفواتنا ومنصتاً جيداً لشكوى صدورنا.
على الرصيف وجدنا من شاركونا توهان مشاعرنا وكانوا طوق النجاة الذي أنقذنا من الغرق حين عز الأهل وشح المال واستعصى بر الولد.
على الرصيف وجدنا وطناً يتسع للجميع، ليس له عرش متهالك ولا حاشية مراوغة ولا شعب أخرق، وطن من المشاعر الراقية التي ليس لها عملة موحدة ولا بنية تحتية مرشحة للفناء ولا نخبة مميزة متشرنقة في عباءة مرقعة بالتزندق.
رصيف نظيف تماماً من ارتشاف عرق العمال ولعق صديد جراحهم وسفّ تراب أقدامهم.
رصيف غير عائم بين سياسة القصر وسياسة الشارع، رصيف لا يحمل إشارة قف ولا يمنع الوقوف قطعياً، وليس له منحنيات خطيرة ولا سنام مرتفع يعرقل سير الأحداث ويمنع وصولها إلى مسامع الدنيا.
رصيف محاكمة ليست عمياء حتى وإن أصابها الصمم، وقضاته لا يفتحون جيوبهم أمام قضايا المظلومين ولا تتدلى شفاهم أمام الظلمة ولا يضربون الحق بالباطل وهم يعلمون.
في آخر الرصيف لا تقف النعام تدس رأسها في التراب، ولا تنهش الأسود لحم الأبرياء، ولا تتدلى القرود برؤوسها لتبدي الشماتة بالأتقياء، ولا تقفز الغزلان خوفاً من ضراوة وحشٍ كاسر.
رصيف سلام.. كل ما عليه سلام، كلماتنا التي تشق الأفق، نواصينا الموسومة بسجدة العناء وكل ما فينا من كبرياء.
رصيف بلا متسولين ولا عاطلين ولا سماسرة ولا أطفال بلا آباء ولا أمهات بلا أبناء ولا بغايا بلون الليل ولا أوصياء، رحبٌ لا منصات فيه ولا جماهير ولا أيادٍ مرجفة.
في آخر الرصيف معسكر شوق وبندقية حب ورصاصات وفاء، تنشر الخير ولا تسأل الناس إلحافاً ولا تربي خلف ظهرها أبناء السبيل.
ألطاف الأهدل
في آخر الرصيف .... 2273