كانت عيناها دامعتين بالأسى، يتغشاها الذبول ويكاد مصباحهما الفتي ينطفئ وهي تتأوه هاربة من سوط المرض، يجلد ذرات جسدها دون أن يترك لها فرصة الدفاع عن النفس.
أعين المرض حولها لا تختلف كثيراً عن عينيها، المكان يضج بأصحاب المحن السماوية وكلهم يسعى خلف الأمل، هارباً من الألم، الكل يركض خلف بعضه البعض، تهرب هي من ألمها ويهرب الألم من جرعات الأدوية المكثفة حتى لا يموت.
جلست بوقار الموتى وهدوء سكان الأضرحة، خطواتها وهي تغادر غرفة الطبيب عقارب ساعة أوشكت أن تذوي دقائقها إلى الأبد.
بين خطوة وأخرى كانت تسقط أنفساها على الأرض في شكل صاعقة مهشمة، تغزو شظاياها شقوق ذاكرتي، فيعتصر جسدي ألماً وخوفاً.
كانت قادمة من بطن الريف، تشكوا أحزانها لخاصرة المدينة وهي في غفلة عن الشكوى، تداعب أجفان المارين على تضاريسها بلؤم وخبث، تقتل المدن أبناءها في زحمة البحث عن المجهول، تقتل فيهم معاني النخوة والإنسانية، تقتل فيهم الكثير مما تخبيه حياة الريف والبادية والتوحد مع قوة الصخر ورقته في أعالي الجبال.
كانت عاثرة، ويبدو أنها لا تملك ما يكفي لتحصل على جرعة السم الكافية لإبادة المرض، المرض الذي لا تستطيع ابتسامات المحيطين وعطاياهم أو حتى نظراتهم المشفقة أن تنسي المصابين به ذرة ألم واحدة، المرض الذي يجعل البشر في محطة انتظار على طريق الموت بلا متعة، المرض الذي حل على البشرية كلعنة صامتة، خبيثة، تجتث جذور الناس بعد أن تحرق ثمار أعمارهم.
هو لون من ألوان الموت، أو سبب من أسبابه، لكنه اللون الخبيث الذي لا يدع للمصابين رؤية الحياة بألوانها الحقيقية.
كنت أتساءل عن سبب انطوائها في تلك الزاوية حتى عرفت أن الطبيب أبى أن يحقن أوردتها بتلك الجرعة الناسفة حتى تدفع مبلغاً من المال هي لا تملك حتى بعضه، وكأن الإنسانية بمعانيها الراقية ومفاهيمها السامية توقفت في عروق البعض حتى أصبحوا يرون وجوه الناس أوراقاً نقدية، رخيصة، لا تساوي شيئاً في ميزان المنح الإلهية العظيمة، التي تقف الصحة تاجاً على رأسها.
شعرت أن دمي وصل حد الغليان وأوشكت أن أصرخ في وجه الطبيب، لكنني تماسكت رغماً عني وبعثت إليه بجملة سخط مغلفة "دكتور هل تعلم أن الإنسان يجب أن يزكي على صحته، وأن حياة الإنسان لها نصابها؟!"، وبعد جمل استعراضية عمياء، أصبح الطبيب إنساناً وشعرت بأنني أصبحت كذلك حين استطعت أن أقف على قدمي وأنا أراها تبتسم بعد أن حصلت على ما تريد، لكن أبقى أتساءل دائماً: لماذا أصبحنا نرتدي أجسادنا كأثواب بالية، تغطي وحشيتنا ونهمنا الدنيوي إلى أن تظهرا بوضوح على حين غرة من أخذ العزيز الجبار.
هل يأمن هؤلاء الأطباء المرضى بحب المال مكر الله؟! هل تنفع معقمات الدنيا ومضاداتها في رد القضاء ومنع البلاء والتمحيص بالابتلاء؟ هل تتعاظم قدرة الأدوية، لتعلو على قدرة الذي خلق الداء والدواء في أجساد الناس بنفس النسب؟! كيف تعيش الأفاعي وهي تحمل السم في أحشائها؟! وهل أصبح الإنسان جاحداً إلى هذا الحد؟، أتذكر دائماً تلك المقولة: "إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس، فتذكر قدرة الله عليك"، فانتبه إلى وجود الرابط بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق، إذ تبقى قدرة الله رحمة وتبقى قدرة المخلوق منّاً وأذى.
إذا لم تكن مهنة الطب هي المهنة الأكثر حاجة للمشاعر الإنسانية، فما نوع المهن التي تحتاج إذاً لوجود المشاعر؟!، إذا لم يقربك تأمل جسدك بكل تفاصيله الداخلية والخارجية على أجساد الناس تحت مبضعك ويداك المعقمتين من الله، فما الذي يصنع القربى بينك وبينه إذاً؟!.
ألطاف الأهدل
ألا يمرض الأطباء؟! 2268