من مساوئ السياسة أن لها أبوباً مشرعة للدخول، لكنها تفتقد لأي ثغرة تسمح بالخروج، فالسياسة فن وذوق وأخلاق مثلها مثل قيادة السيارات، لأنها وجدت لقيادة بشر من لحم ودم لا من حديد.
ويستطيع القادة العقلاء أن يستخدموا مناصبهم لزرع القيم الجميلة بدلاً من زرع الأزمات، ويستطيعون أيضاً أن يدفعوا بشعوبهم للحاق بقطار الحضارة بدلاً من أن يسوقونهم إلى الخلف، في قطعان مكممة الأفواه، مربوطة الأيدي والأرجل.
لم نر السياسية إلا من جهة واحدة -منذ أن عرفنا الحياة- وأصبحت لدينا أوطان وممالك وجمهوريات جغرافية وهمية معتمة.
لماذا لا يتطور قاموس السياسة ويسقط من بين مفرداته الشرسة العنف والإرهاب والتخريب؟ وهل من حقنا أن نسأل أيهما صنع الآخر أو هيأ لوجوده: العنف أم السياسة؟!، هل استخدم الناس السياسة بشكل خاطئ، فولدوا العنف والبطش كنتيجة لذلك الاستخدام الخاطئ؟، أم أن العنف الفطري الموجود بين البشر دفعهم لاستخدام السياسة كطريقة للإقصاء والتصفية وغطاء للفساد المالي والأخلاقي الذي أقسمَ أن لا يعود خالي الوفاض كما بدأ؟، لماذا يستغشي الناس ثيابهم عن القيم ويتعرون منها تماماً حين ترقص السياسة؟!.
بدأ الإنسان حياته على سطح الأرض خالياً تماماً من القيم، ثم هيأ له الخالق أسباب الهداية عبر وسائل سماوية متتالية، جعلت من الأرض وسطاً صالحاً للخلافة والعمارة، لكنها لا تحمل صفة الديمومة والبقاء، ثم أرسى بين سكانها قواعد السلوك وأصول التعامل في جميع أمور الحياة، وبدت الشعوب تسير وفق حركة سلوكية فطرية حتى بدأت الأطماع تغزو نفوس البشر، فكانت المرأة والمال والبنون من أكبر وأقوى أسباب القتل والافتتان، وعلى إثر ذلك انقسمت البشرية إلى قبائل ودول، فنشأت الحروب وبدأت الحدود بالظهور وحين تنقسم الأرض تتشعب الأفكار وتتحلل قناعات التوحد وتبدأ سياسة الحفاظ على النوع تطغى على مشاعر التماسك والبقاء ضمن إطار المجتمع الواحد، ومن هنا يبدأ التجييش ورسم خطط السيطرة الجغرافية والإبادة العرقية والاستعلاء في الأرض.
هي قصة الوجود التي خلقها الله بأسبابها ومناخاتها وطقوسها ونتائجها، مع تسخير القدر ليكون راعياً رسمياً وحصرياً لمباريات الخير والشر بين هؤلاء وأولئك.
تستمر الحياة بالمضي قدماً حتى تغرب شمسها وتأفل ذبذباتها وتسكن عروقها تحت تربة الاندثار، لتحيا على إثرها قصة خلود أبدية، وهذه القصة تحديداً هي ما يغفل عنها غالبية الناس ولو تذوقوا ثمرة انتظارها على بساط الطاعات، لأدركوا حلاوة الرحيل إليها، عبر بوابة الموت.
الحكام والساسة والملوك لا يرون الحياة كما يراها العامة والبسطاء، هم يرونها من خلف نوافذ بروجهم العالية ويعتقدون بأن ما تملكه أيديهم من صنع أنفسهم، بينما يراها البسطاء على طبيعتها –هينة- مجرد وقفة قصيرة في طريق مشوار طويل، ويعلمون تمام العلم أن ما ملكته أيديهم هو من فضل الله وقوته.
السياسة مسحت أسطراً عريضة في كتاب الحياة، لتفرض وجودها بالقوة والساسة الذين يظنون أنهم أصبحوا عنواناً لها، ليسوا إلا كلمات، كلمات ستبقى بين الأقواس إلى أن يأذن الله.
فلماذا إذاً ننحرف عن جادتنا ونملأ جعابنا برزايا الحياة ونثقل جيوبنا بآثامها ونحن نعلم أن رحيلنا قادم لا محالة –قادة كنا أو رعية.
كم أتمنى أن يمّن الله على الناس بما منّ به على المتسربلين بوجه التجلي والوقوف بين يدي العزيز الغفاز، حتى نستشعر لحظة الموت التي لا تفرق بين حاكم ومحكوم، اللهم إلا في آلية نزع الروح، فالبسطاء الأنقياء يرحلون مبتسمين، راضين، والظلمة الفجرة يخوضون فيما كسبت أيديهم، مندهشين مما يرون ولا نراه.
من مساوئ السياسة أنها تغسل ذاكرة الروح من إنسانيتها وتعقل راحلة الضمير وتتماهى في موجة الاستغلال المشين، لكنها لا تفلح في السيطرة على حواس العقل، إذ يبقى الإنسان كائناً عاقلاً إلى الأبد، حتى وأن اجتاحت أمراض الجنون تلافيف المخ، إلا أنه لا يمكن أن يركض خلف الفرائس أو يتسلق الأشجار أو يزحف على الأرض.