احمرّت وجنتاي خجلاً وهو يقف أمامي بمنتهى الرشاقة يشبك بين أصابعه لتكون سلماً أصعد عبرها إلى ظهر حماره الأبيض ذو الشفتين الناتئتين، لكنني ترددت كثيراً وأنا أشفق على نفسي من ركوب الحمار الذي لم اعتد حتى المرور بجانبه، فكيف أصبح لصيقة به هكذا بين يوم وليلة، لكن وحين أشار بيده يدعوني إلى النظر حولي رفعت طرحتي السوداء الشفافة وتأملت فإذا بالحمير تملأ شوارع المدينة، يستقلها رجال ونساء، تميزهم طريقة الجلوس فقط على ظهر تلك الحمير، فبينما يجعل الرجل من ساقيه نفقاً لمرور نصف الحمار بين ساقين غليظتين، تُلقي المرأة بنصف جسدها الضئيل على ظهر الحمار مع إبقاء ساقيها متوازيتين جنباً إلى جنب في حياءٍ شديد.
رأيت شوارع المدينة مغطاة بطبقة متحركة من الحمير، أراد بعضهم أن يضيف إليها شيئاً من الفخامة، فأسرجها بأغطية مزركشة وكان الحمار الذي اجلس عليه واحداً من أكثر الحمير أناقة!.
كانت الجمال أيضاً تسير في موكب مهيب تحمل الهوادج الملونة، تحمل خاصة القوم ونساءهم من صاحبات الصون والعفاف.
المدينة هادئة، خالية من الأدخنة والعوادم السامة، الأرصفة تعرض أنواعاً من العلف، إذ لم تعد أشجار الزينة سامقة كما كانت، لا رجال مرور، لا تحرير مخالفات، لا أصوات مزعجة للمنبهات بين يدي السائقين.
وفي كل جولة يوجد "مربط حمير" للاستراحة أو التسوق..... أو... هيا.. هيا "اشتطلعي وإلا لا؟! هذي عاده تتدلع.. هيه"، أصوات ثقبت طبلتي وشرخت شاشة الخيال أمامي وصفعتني بقوة لأنظر فإذا بي أعيش حلماً من أحلام اليقظة وأنا في انتظار باص المواصلات العامة.
تملكني الحياء والإحراج الشديد والكل يصرخ في وجهي من سائق وركاب، لكنني صعدت إلى الباص وأنا أشعر برغبة ملحة في الضحك من ذلك المنظر التي كانت عليه مدينتي تعز.. الحالمة التي ماتت على أعتابها الأحلام، الجميلة التي شوهتها يد الأيام العابثة، البريئة التي غرقت -رغماً عنها- في بحر الذنوب، العتيقة التي لغمتها الحداثة بالفوضى والجفاء، آه كم أموت وأنا استمع دقات قلبي تستغيث بمشاعر الوطنية عند هؤلاء فلا مُجيب، لا مجيب، كم أترنح على حبل الأمان، فتصيبني رصاصات الحسرة الطائشة وأنا أبحث عمن يشاطرني هذا الهم الثقيل، هل تخلق الأوطان من رحم الأماكن كي تموت؟، هل تصبح قبور الشياطين داخل صدور البشر أسفاراً ثوراتية محرفة؟، هل تسير إرادتنا داخل فنجان مشروخ لقارئة شمطاء قذرة، تغرق أحلامنا بالوهم كلما تعلقنا ببعض الأمل؟.
لماذا تسير الأيام إلى الخلف هنا؟، لماذا تتباطأ الأيام وتتلكأ الليالي؟، لماذا تعصي النجوم أوامر القمر؟.
واصلت مشواري وأنا أشعر أن الحياة في قلبي توقفت، إذ لم أسمع من يناديني من هناك، تبددت زحمة الأصوات في صدري.. حتى أنني استسلمت للسير نائمة خلف موكب ابتهالاتي!.
ألطاف الأهدل
لماذا تسير الأيام إلى الخلف هنا؟! 2117