من السهل جداً أن تنتشر الشائعة أياً كان نوعها ومهما كان مضمونها وهي ارتداد طبيعي لثقافة المجتمع، إذ أن للشائعة مدلولات علمية كبيرة، تصب جميعها في بوتقة اجتماعية في المقام الأول ويأتي بعد ذلك دور الدين والظروف الاقتصادية والسياسية التي يعيشها المجتمع.
فمن السهل جداً في مجتمعات جاهلة أن تنتشر شائعة عن مرضٍ ما أو وفاة شخص أو ولادة طفل أو زواج أو طلاق رجل أو امرأة، لكن من الصعب جداً أن ينتشر خبر علمي أو سياسي أو اقتصادي مدروس له أهميته بالنسبة للناس.
وفي ظل مجتمعات تمارس الغيبة والنميمة في أنماط اجتماعية مختلفة، فمن السهل أن تجد الشائعة مكانها كمطية تحمل على ظهرها آلاف الأطنان من أعراض الآخرين التي يرى الناس فيها مجرد تسلية خلال "جلسة، تفرطة، جَمعة...."، وهكذا تسير أخبار الناس بين بعضهم البعض كما تسير مياه الصرف إلى خارج حدود المدن، سريعة، لكنها غثة بما تحويه من قذارة.
وفي كل مرة تنطلق شائعة ما، من منطقة جغرافية محددة ضمن المجتمع الواحد يُحملها الناس أضعاف ما تحتمل، كون المتلقين لها من مختلف طبقات المجتمع، بدءاً باللذين لا يرون في الدنيا إلا أنفسهم وانتهاءً بمن أصيب رغماً عنه بمرض اللامبالاة ومروراً بالعُذال والحُساد والمرتزقة، ممن يرون في الشائعات أخباراً طازجة يمكنهم عن طريقها الحصول على الشهرة ولفت النظر إليهم وربما عن طريق هذا الخبث الإنساني حصلوا على ترقيات ووعود من آخرين يستفيدون علناً من الإحاطة بالناس.
الشائعة قصة قصيرة محكوم عليها بالفشل منذ ولادتها وحتى تموت على أبواب الكذب، إنها فسحة الفكر الخبيثة التي يخطط صاحبها لارتياد أندية اللغة العابثة بالألفاظ، وصولاً إلى رسالة كريهة يُلقي بها عمداً في حدائق المجهول ويبقى متربصاً يقظاً لما تحمله الأيام من أحداث قد تغير مجرى حياتهم والسبب كلمات يطلقها أشخاص يحملون من الجُبن والخديعة الكثير والكثيـر.
أعرف أشخاصاً لا يطعمون للحياة طعماً إذا لم ينتهي يوميهم الذين يعيشون ولم يسفكوا دم الخديعة ويأكلوا لحم الخيانة ويجعلوا من حياة الناس وهمومهم ومشاكلهم حديث المدن.
زوابع الصيف - التي قد تقتلع الأشجار من جذورها - ضعيفة أمام عاصفة قاسمة لظهر إنسان ما، ابتكرها وكتب سيناريو أحداثها أشخاص فارغون من الداخل، بحيث تدوي أفكارهم كالصدى داخل عقولهم ثم ترتد عليهم قريباً كان أم بعيداً.
الشائعة مسرحية كاتبها ومؤديها ومخرجها واحد، وأما المتفرجون عليها، فهم المجتمع بأكمله، والمشكلة في الشائعة إن كل فرداً من أفراد هذا المجتمع يستطيع أن يضيف أو يحذف من نصها ما يشاء ولهذا يحمل سيناريو الشائعة كل الاحتمالات، بل وأكثر مما هو محتمل.
ومتى ما كان النص في يد الجميع، فيمكنكم تخيل حجم المسرحية وأبعادها وأحداثها المتواترة، بل ونتائجها القابلة للصواب والخطأ والسلب والإيجاب.
الشائعة هي أسرع طريقة لتدمير الآخرين والنيل منهم وبما أنها أداة رخيصة وحقيرة، فهي في متناول الجميع، لكنها أيضاً من أسوأ الوسائل الدالة على قذارة مستخدميها وهي نقطة سوداء على صفحة تاريخية لا تزول إلا بزواله هو.
الشائعة مصدر من مصادر الفتنة، لكنها أيضاً سلاح فتاك في حالة الحرب، إذ تلعب الشائعات في الحروب دور السلاح الذي يستخدمه الطرفان للانتصار على الآخر، فخبر كاذب واحد يمكن أن يصعق جيشاً بكامله، فيتقهقر ويهزم ويكون النصر حليف الذين اجتهدوا بعقولهم لا بأيديهم، لينالوا من عدوهم نيلاً قوياً.
للشائعة حضور كاذب بين الناس، لكن يبقى لها مكان، مهما حاولنا تعبئة المحيط من حولنا.
المشاهير وأصحاب التميز الاجتماعي والخاصة من الناس تطالهم الشائعات أكثر من سواهم وهذا دليل على صحة القول الأول "إن الشائعة غالباً تنبع من قلب مليء، بالحسد والغيرة" والغرض منها تدمير حياة الآخرين أو على الأقل المساهمة في التخفيف من الألق الجميل الذي يحيط بهم.
والشائعة تشبه تماماً العيار الطائش الذي إن لم يصب يثير الصخب، لأن الفكرة العامة تبقى معلقة ما بين الحقيقة والكذب حتى يتم إثبات صحتها أو تبرير عدم حدوثها ممن حاول أن يرسمها حقيقة كاملة بكل أبعادها.
ما منا من أحد إلا وعانى يوماً ما من شائعة طاردته حتى ثبت عكسها أو التصقت به، فصارت حقيقة ربما تصديقاً لقاعدة هامة في البرمجة اللغوية تتحدث عن استقطاب الحظ أو التفاؤل بالمستقبل أو إنعاش الشعور الداخلي بالنجاح والتفوق والوصول.
لعل شائعة ما أخطأت مسارها يوماً وحققت لصاحبها ما كان يرجو أن يتحقق منذ سنين طويلة.
• الشائعة قطار يسير بسرعة الضوء، لكنه لا يصل إلى وجهة واحدة وليس له محطات إلا محطة الموت.
ألطاف الأهدل
حين تتحدث الشائعات 2068