إنها سفينة الأحوال والأسماء والصفات، التي حملت من كل شيء زوجين اثنين مبحرة عبر الوجود في موج من الأحداث المتلاطمة والمستمرة في التواتر حتى يصل كلٌ منا إلى مثواه الأخير في لعبة قدر تبعث على الدهشة والغرابة والخوف والاطمئنان في نفس الوقت.
الحياة ليست مناصب يختفي بريقها، ولا أموالاً ينتهي نصابها، ولا سلطاناً يأفل حين يبلغ مداه، إنها ليست حلبة صراع ولا محكمة إنصاف ولا كتاب أحكام، إنها ليست وليدة المجهول ولم تكن في يوم من الأيام نسباً لصيقاً بمبتدأ وخبر، الحياة جملة مستقلة من المشاهد الحية والميتة، خليط متجانس من الاعتقادات والقناعات، شراب غير محلي من المفارقات، إنها أقصوصة أمل وألم قصيرة جداً لا تتعدى بعض أسطر من الرضا والخشوع والتجلي في سماوات الإيمان والقناعة.
الحياة هي اللغز المحير الذي مات من عاشه وعاش من مات فيه! هي صدفة مفتعلة جمعت الأضداد في لوحة خلود واحدة وفرقت الأنداد على مشارف رأي قاصر لم يكتمل بعد، لأن عقل الإنسان يدرك ما حوله فقط ولا يدرك ما يغيب عنه مساحة الظهور أمامه.. الحياة ألوان المبصرين وأصوات الصائمين عن النطق وأضواء الذين لم يوهبوا نعمة الرؤية حتى بقلوبهم، إنها وميض لا ينطفئ، شعلة دافئة لا تموت، يغذيها القدر.
الحياة ليست يداً واحدة تصلي أصابعها فرض الكبرياء وحيدة، إنما هي جسد مكتمل تتداعى أعضاؤه ألماً حين تتزلزل زواياه بقوة الفناء والانحلال، بالحب وحده لا تستمر الحياة، وبالمال وحده لا تستقيم، لأنها خلقت من مقادير متساوية في أغلبها ومتفاوتة في بعضها من كل صفة لها موصوفها الحي أو الجامد، العاقل أو المخلوق لحكمة الكينونة فقط، الحياة عواصف مغلقة بالسكينة وهبات نسيم يتغشاها زخم محموم من النقائض، ليست ناراً ولا زمهريراً، ليست جنة وليست سعيراً، هي من كل هذا وذاك وأشياء أخرى لا بد من وجودها ـ قليلة كانت أو كثيرة، هناك أمراض قد تصيب جسد الحياة لتفتك به، أمراض بغيضه، قاتلة، يترأس طاولتها الحسد الذي يدفع للبطش وأكل حق الآخرين وظلم النفس التي حرّمها الله.
في الحياة قصص من كل لون وحكايا من كل شكل، تتوزع أدورارها بمنتهى العدل بين شخوص وزمان ومكان وأقدار لها اليد العليا في صياغة الحدث كما كتبه القلم لأول مرة في اللوح المحفوظ.
في الحياة أدوات سعادة ووسائل تعاسة موضوعة في جعبة واحدة، لكن الإنسان بعقله يستطيع أن يستخدم تلك الأدوات والوسائل بدقة متناهية وفق ما تقتضيه حاجته للعيش بسلام وتسامح وفضيلة، تلك السفينة التي تسير في عرض الكون، متهادية بين نهار وليل، هي دقائق العمر التي تمضي كمدٍ وتنتهي كجزر، هي لحظات العمل الذي ثقل الميزان ببساطته البعيدة عن الشر والقريبة من الخير والخالصة من غًثاء وتفاهة متاعها.
الحياة ليست فكرة مجردة ولا خيالاً مطلقاً وهي ليست حلماً متأرجحاً بين نقيضين، إنها البوتقة الإلهية الرائعة التي مزحت المستحيل بالمعقول، واللامحدود في عمق المتاح، والسرمدية الغامضة بالأبدية المجهولة، والأسود بالأبيض، وكل الألوان بفلسفة اللالون، الحياة ابتكار الإدارة واختراع الرغبة، صناعة الأحداث وفق كاتالوج القدر!.
الحياة ملهى يومي يرتاده الناس ويغادرونه رغماً عنهم.. ((إعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكفار نباتهُ ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذابٌ شديدٌ ومغفرةٌ من الله ورضوان وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغرور)) [الحديد: 20].
هذه هي الحياة رُكام أمتعة هشة، الغني فيها والفقير سواء.. من التراب وإليه.. والفرق الوحيد هو نسبة التقوى التي ترفع معدلات الدخول إلى جنان دون وساطة تذكر!
ألطاف الأهدل
ما هي الحياة؟! 2258