سئمت أعدُّ خُطايِّ إلى الهاوية، سئمت أنادي لميلاد روحي فيزهق نبضي وتحيا جروحي، سئمت أصارع صمتي واجهض همسي وأبقي كوجه زحل ساكن لا يبوح، لماذا تصير السحاب مناديل ورقية حين تغني فيروز "سألوني الناس.."؟! ولماذا تصبح أهداب البشر غابات نثر حين يصدح الساهر "قولي أحبك..." ولماذا تعود أصابعنا مواسم قيض عندما يبهجنا الأمير بترنيمة محمد عبده "قالت من أنت وقلت مجموعة إنسان.." لماذا يظهر الحب على ملامحنا كخطيئة، ونخفيه دون جوانحنا كعورة؟! ونخاف أن نفشيه كسر خطير أو أن نخوض فيه كقضية حياة أو موت؟! لماذا نخاف قراءة رسائلنا وكأنها طلاسم موجزة من "شمس المعارف"؟!، ولماذا نذوب خجلاً حين تمر على مسامعنا أسماء من نحب دون قصدٍ من ذاكرة الزمان أو المكان وكأن أسماؤهم همسات عشاق على صفحة ليل؟، لماذا نتوه الطريق ونحن حفاة؟! لماذا نحلق كأسراب طير بلا أجنحة، ولا سماوات ولا أغصان بوح ولا أضرحة؟.
سئمت أعد النجوم حتى تسطع الشمس ويأتي النهار محملاً بالحبور، سئمت أقايض ساعات أنسي بأيام بؤسي ولا أكون ضمن قافلة، سئمت أراود بعضي لبعضي وأنسى كياني وأني بشر، كيف لا تنتهي الأمنيات وسيل الحياة أسير؟! وعمر الليالي قصير؟!، كيف لا تنتحب الكلمات على باب وجهي وعيناي ملك السماء، وكل أحاسيسي طين وماء؟!
أنا سئمت أراقص طيفي على مخدع الذكريات، وأملأ كأس صمتي بمرير اللحظات، واطفي نور قلبي بضجيج النبضات، مللت الكلام، كرهت الوقوف على قدمي في وجه العاصفة، سمئت أن أتدلى كقطرة حبر عن قلم ناضب، أن أصبح بعض.. شيء.. كل هذا.. لأني سئمت الجلوس على عرش من ورق، والبقاء أميرة على حاشية من مفردات لا تسمن الروح ولا تستر عورة الجسد، أنا لست فنجان قارئةٍ تدس السم في أفواه البشر ولست صولجاناً بيد كاهن، لست سيفاً معلقاً على رقبة الصحراء في زمن المعارك، أنا لست وجهاً عابراً في ذاكرة، لست عنواناً لكتاب يتخطى المعجزات، لست آلة بوح، ليست شفرة رقمية على لوحةٍ صامته، لست امرأة من نساء هذا الزمن، أنا جبل عالٍ، لا تهزني شجون ذاكرتي ولا تنحدر عن قممي شلالات المطر ولا يقسم خاصرتي قوس قزح.. لماذا تصبح أعمدة الإنارة في عيني فوانيس ريفٍ رخيم عندما ما يبزغ الفجر وأنا حائرة في نصف ليلٍ ونصف نهار؟!، لماذا أغني وكل مواويل هذا الزمان غثاء رخيض؟!، لماذا أصوغ حروفي قلائد على أجياد قصائدي وما من فطن.. ما من فطِن!..
سئمت الصراخ وأنا أنادي بلادي.. بلادي.. وما من وطن، بماذا اسمي هجرة الطيور والفراشات والأرواح وليس لي مثل كل الناس اتجاهات أربعة؟! كيف أصف هذا الطيف أو ذلك الخيال وأنا لازلت غارقة في طقوس العصور الغابرة؟!.. أنا امرأة لا يعنيها أن تغيب الشمس أو يختبئ القمر لأن سماوات صدرها مشرقة.. مضيئة بذلك الوهج الذي تصنعه السماء، أنا امرأة سئمت أن تزرع أطراف المدينة بالضباب وتخضب أحشاءها بالعتاب وتمضي على وجهها كما تمضي قطعان الماشية.. لا شيء يسقط من كبريائي، اعلم أن حدود الزمان والمكان من حولي راحلة، فلماذا ابقي وحيدة؟! لماذا أبقى وكل من كان حولي رحل؟!..
جنون.. جنون.. أن تستبيح مساحات قلبك الذكريات ويصبح خافقك محاصرٌاً بعقارب الزمن.. انا سئمت البقاء كحرف ركيك لا يصلح أن يكون قافية..
ألطاف الأهدل
سئمتُ الجنون 2027