لن أتعمق في معنى هذين النقيضين لغوياً، لكنني سأتعمق في حالة الشعور المصاحبة لكل منهما على أساس أن الإنسان مخلوق فطري يعيش حياته وفق كتلة حساسة من المشاعر، هي من تملي عليه ردود أفعاله وانفعالاته في أغلب الأحيان.
الجوع حالة الخواء التي تجعل حواس الجسد كاملة، تبحث عن كل ما يحقق الشبع، وسواء كان الجوع فكرياً أو عاطفياً أو جسمانياً، فالحواس تعمل على عمل الملعقة والشوكة والسكين التي تساعدنا على تناول طعامنا، الجوع للطعام لا يشبه بعضه إلا في حالة المجاعات فقط، وهذا يدل على أن الجوع مرتبط بمزاج الإنسان الفني والثقافي والشعبي.
إذ أننا في حالة الجوع الشديد مثلاً لا يمكن أن نرضي رغبتنا بالطعام إلا الخبز الساخن وقطعة البروتين الخالية من الدهن، لكن النّهم الإنساني لا ينتهي عند هذا فحسب، إذ بعد أن تشبع المعدة أو تمتلئ بالطعام، يبدأ جوع المزاج الذي ينتقي أصناف الحلو بحذر شديد، خوفاً من حدوث زيادة في الوزن أو زيادة في معدل الإنفاق اليومي لوجبات الطعام، خاصة لدى الأشخاص الذين أدمنوا هذه العادة منذ الصغر.
إذاً فالجوع قائم قبل تناول الطعام وبعده وليس هناك ما يجعل الإنسان يتوقف عن التلذذ بأصناف الطعام والحلوى إلا المرض.. شخصياً لا أرى عجباً في ست وجبات منظمة ومنسقة وتحوي جميع العناصر الغذائية، تؤخذ على مدار اليوم.
لكن الجوع دائماً لصيق الخيانة وهما يتطارحان المصلحة على فراش واحد، ولهذا يُقال الجوع كافر، فكما أن الكفر يدفع لتجاوز الحدود وانتهاك الحرمات، فالجوع أيضاً قد يدفع الكثيرين للسرقة أو القتل أو التخريب، بالرغم من أن الأمر لم يكن يحتاج إلا لبعض لقيمات تسد الرمق ولهذا لا تسمحوا لشجاعتكم أن تمنحكم الفرصة لقيادة طابور من الجياع!.
تأملت كثيراً تلك المقولة الشعبية القديمة جداً ووجدتها صحيحة 100% والتي تقول: "إشبع ابنك وأحسن أدبه"، إذاً فالجائع لا يستوعب جملة المراسيم الأدبية والخلقية التي يطرحها الوالدان، لأن جل حواسه يكون منصهراً على حرارة الجوع وهو ما يعطي الدماغ فرصة أكبر للتركيز على معدل الشهية عند الإنسان وكيفية إشباعها.
كلا هذا النقيضين، ابتداءً للآخر وانتهاءً إليه، وهما في ذلك كالليل والنهار يتعاقبان ولا ندري أيهما يبدأ أولاً أو ينتهي قبل الآخر.
حالة الشعور، ساعة الشبع تعقبها لحظة جوع لشيء آخر غير الطعام، قيلولة مثلاً، حلوى أو شراب، أو ساعة استرخاء أمام التلفاز.
الجوع الفكري هو من يمنحنا فرصة استكشاف الواقع والغوص في أعماقه والتركيز على تفاصيله ومن ثم الحصول على خبرة تراكمية معقولة في تلك المجالات التي نكتشف أنفسنا بدقة، ونحن تلاميذ على مقاعدها.
كذلك الحال مع جوعنا العاطفي، إذ نجد أنفسنا أحياناً أسرى لحالة عاطفية قوية، تبدأ وتنتهي بسلسلة من المشاعر المتضاربة بين سالبة وموجبة، بعضها يُحيي انطفاء إدارة مدخراتها الفكرية والجسدية في مشاريع اجتماعية نافعة لها ولسواها من البشر، لدينا ضعف كبير جداً في إمكانيات التخطيط، وتقييم القدرات، والتفاؤل بالأفضل، وكأننا أجيال مستنسخة، حالنا لا يقل تعثراً عن حال النعجة "دوللي" المستنسخة والتي وجدت لتكون صورة عن والدتها فقط!.
يجب أن تكون غرائزنا الأبوية أقوى وأكثر نفعاً، يجب أن نحذف كلمة الخوف من قاموسنا التربوي ونجرب إطلاق عنان أفكارنا في فضاء التربية المبدعة، لنعيش مع هؤلاء الأبناء تواؤماً فكرياً، ربما سمح غداً بظهور جيل مختلف من ذوي الخبرات والامتيازات المهنية والفكرية التي تصب في خانة الوطن.. الوطن الذي أصبح يشكو هجرة أدمغته المفكرة إلى آخر مساحات الدنيا، بينما هو بحاجة إلى مثل هؤلاء، ليستطيع الوقوف على قدميه، لماذا لا تظهر غرائزنا التربوية في حث أبنائنا على فهم لغة المساجد كمدرسة لا يمكن لقبابها ومآذنها إلا أن تأتي بخير؟!.
ألطاف الأهدل
في معنى الجوع والشبع!! 3055