كان يمر عبر ذاكرتي متخفياً كقوس قزح، يبحث في أحشائها عن لقمة جوع لم يمضغها فمي، كان يقيد أضلاعي بأحبال اللحظة، يأمر قلبي داخل أقفاص الهوى، كان يدغدغ في مشاعر الطيش والمراهقة وأسراب الأمنيات الغائبة بين التخفي والظهور، ثم مات.. مات بعد أن صار جسدي محميات أفريقية تسكنها أشرس الحيوانات وأكثرها ضراوة.. كنت أسرق من عينيه بصيرتي، وأستلهم من أحلامه رؤاي، وأستمد من توهج روحه دفئ شراييني، مات ولم يصلِ على قبر روحي، ولم يكفن وسائد الأمسيات بالحنين ولم يهرول بين صفاي ومروتي كما كان يفعل كل عامٍ حين يدق على بابي بكلتا يديه في موسم الخريف عندما تتساقط أوراقي وأبدو كطائر لقلق على وجه البحيرة لا يكسوه الريش!..
لا زلت أتنفس رائحته التي تكسو معاطف ذاكرتي، لا زلت أستنشق أثير انفعالاته حين تبزغ الشمس وتدب الحياة على وجه الأرض كدبيب النمل على قطعة من السكر، لا زلت أراه في عيني كلما اكتحلت بأنوثتي وصبغت أطرافي بالغرور وتوسدت إحساسي بأني امرأة القصر!
ما أجمل الرمال حين تستسلم بين أيدينا ونحن نبني من ذراتها قصوراً فارهة، ما أروع أن تسلسل نسائم الأيام إلى عروقنا لتنتصب أصابعنا ويبزغ فجر جباهنا ونتحلل كذراتٍ سائبة داخل أثواب تكسو أجسادنا فقط، لكنها لا تستطيع أن تكسو أرواحنا التي جاءت من عالم الأثير إلى عالم كبيرٍ.. كبير كان ملكاً يمتطي صهوة قلمي حين كانت حياتي من ورق!.. ربما قسوة حين حطمت أقلامي ومزقت أوراقي وجعلت منه متسكعاً يحتسي الغربة في الطرقات ويذبل كالأمواج في رحم الشواطئ، ربما اخطأت حين أسقيته حبر أسراري وملكته ناصية خواطري واحتضنت هفواته وهو يكتبني سطراً.. سطراً.. ربما أسرفت على نفسي وهماً وأنا أغُيب عن عينيه خارج أسواره ذاكرتي في رحلة موت كنت أحسبها قصيرة وها هي تصبح سفينتي وأشرعتي وراحلة العذاب الذي لا ينتهي، كنت صغيرة حين تعلقت بأهدافه واتخذت من ساعديه أرجوحتي، كنت صغيرة ولا أزال صغيرة.
كان أميري وكنت على بلاطه أسطورة ترمقني عيون الحاشية عن كثب دون أن أدرك فيها معنى الخيانة، ثم مات.. مات ولم يسألني عن اسمي ومن أين أتيت!
على قبره أنثر الرياحين كل عامٍ وأقرأ ما استطعت إليه سبيلاً.. تلك كانت حكاية عشتها قبل ألف عامٍ حين كانت قبور الأوطان مسرى المحبين والعشاق وأرباب الوله، ما أعظم الحب حين يكون محبوبنا الوطن، هذا الحب يسري عبر شراييننا كشفرة الموروث من عرق السلالة إلى عرقها، من حاديها إلى باديها، من قطبها المتجمد وعبر استواء براكينها إلى قطبها الآخر، هذا الحب الذي ليس له ثمن إلا الموت، أي أغنية وأي لحنٍ وأي قصيدة يمكن أن تصف هذا المخلوق الخرافي الذي يسكن أجسادنا ويغذي مشاعرنا الجائعة بالنبل والكرامة والإباء من منا لا يذوب عشقاً بهذا المعشوق الذي لا يخون ولا يهجر ولا يجرح ولا يجرعنا كأس الحرمان عانياً؟!.. كنت صغيرة حين غادرتُ رباه الجائعة للشعب لكني بقيت أذكر منه أرجوحتي، وقصائد الحب التي كتبتها وأنا بعيدة عنه وقريبة من روحي.. واليوم.. اليوم أدركت حين أصبح أطفالي يحلمون بوطنٍ آمن كم كنت محظوظة حين مزقت جواز سفري ومسحت سنوات عمري وأنا أعيش بعيداً عنه.. هناك حيث يختفي الجياع ليلاً والأثرياء نهاراً، هناك حيث ترقد الصلوات في محرابها دون أن يقف على بابها حاجب!..