من منا لم يشعر بالرهبة وهو يحاول الهروب من ظله في ليلةٍ ماطرةٍ مُرعده لا مصابيح تضيء حجرات منزله ولا طمأنينة تثير الدفئ في أرجاء روحه، من منا لم تأخذه سنة من فزع أو لحظة من هلع أو ثوانٍ من ذهول قيد حركتهُ وشل إرادته، من منا لم يقع في فخ الخوف حتى أختنق بنبضات قلبه وتزلزلت أركان صدره وجثت روحهُ بين يديه عاثرة، من منّا لم تصبهُ شهقةُ الفجأة أو تطرحهُ رعشةُ القدر؟! لا أحد منا ينجو من مصائب الحياة، حاضرها وغائبها، كبيرها وصغيرها، ولا أحد منا يأمن مكر القضاء وحق الدفع المسبق للمعاصي والذنوب والآثام..
للخوف سلطانٌ على قلب الإنسان فإما أن يدفعهُ لترك الدنيا وما فيها وإما أن يدفعهُ لجمع كل ما فيها، ولن يستطيع ولو حرص! حين يخاف الإنسان على نفسه يزهد بما سواها وحين يخاف منها يطمع بكل ما عداها لكنهُ في غفلته هذه ينسى أن الموت أقربُ إليه من شراك نعله ولهذا يموت الإنسانُ خاوي الوفاض ويُقبُر خالي الجيوب ويدفن وحيداً فريداً بلا وليف.. الخوف يدفع الإنسان أحياناً إلى الرذيلة فيكذب ويبطش ويفسق وربما يقتل، وأحياناً يصبح الخوف صديقاً وفياً فيدفعنا للفضيلة نتحرى الصدق ونزهد فيما عند الناس ونقصد الطيب من القول والعمل ونساعد في إحياء الناس بالعون الماضي والمعنوي مبتغين بذلك وجه الواحد القهار، الخوف نوع من أنواع البلاد "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين" [البقرة : 155].
ولهذا كان جزاء الصبر عليه عظيماً بقدر عظمته حين يخلع لباس الأمن عن القلوب ويعري الأرواح من الطمأنينة، لا شيء مثل الخوف يفسد طعم الحياة ويلوث معناها ويقتل وجودها فينا، لأنه ينسينا البهجة ويحرمنا طعم الفرح ويغير في أفواهنا مذاق الحلو والمر معاً، الخوف آفة القلوب التي لم تجرب معية الرحمن والعيش في ظل القرآن والتجرد من الأدران، وهو إمتحان صعب لمن عاش عاتياً بين فسادٍ ذاتي وإفساد اجتماعي لأن مثل هؤلاء البشر لا يعرفون معنى الخوف من قبل ولهذا تفزع قلوبهم حين تهب عليهم بعض رياح الخوف من حيث لا يشعرون (حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير) [سبأ:23] للخوف على الإنسان سطوة بطش قاتلة وأحياناً يدعونٍ فأمله، فإما أن تدفعهُ لبعثرة روحه في لحظة طيشٍ وحنون وإما أن تكفيه شر نفسه فيعود إنساناً جديداً بعد أن عانى من حيوانيته طويلاً.
وللخوف محطات في حياة الإنسان تبدأ بإشارات ويتوسطها تحذيرات وتهب بعدها على حياته كأمواج عاتية قد تحطم سفينهُ وتقتلع ساريته وتمزق أشرعته وتجرده من فرصة النجاة حتى يرى الموت أمامهُ ألواناً، إشارات تبدأ في موت غريبٍ نعرفهُ أو قريبٍ نألفه، أو كوارث أو مصائب أو حروب تشهدها المجتمعات، أحلام ورؤى تحذر أو تنذر، تحذيرات في نكبة صغيرة أو كبوة حقيرة أو مرض عارض، وأمواج عاتية تأتي بعد رياحٍ وأعاصير وأمطار غزيرة عبرت أمام أعيننا ولم تعن لنا شيئاً، أمواج تقتلعُ أخضرنا ويابسنا، جميلنا وقبيحنا، صغيرنا وكبيرنا، كل ما كان وما سيكون.. ولهذا يجب أن نحسن استيعاب الخوف كدرس متدرج من الرهبة إلى الفزع والذهول عن المحيط.