الرسم لغة اللون الجميلة التي تنساب من قمقم الخيال كالأثير لتجعل لوحةً ما بين أيدينا مساحة شاسعة من ذرات الشغف والذهول، وكأن الفرشاة بين أصابع هؤلاء المجانين للون مزودة بذاكرة لونية تحوي تدرجات قوس قزح آلاف المرات، الرسم هواية الذين يعيشون أسرى اللون وسجناء زوايا العالم وأيضاً رهائن الفكرة الذكية التي تطرح نفسها فقط بين يدي هذا الرسام أو ذاك، الفرشاة بالنسبة لهؤلاء بندقية حرب وحب وسلام وعداء وصمت وفضول، إنها بدعة اللون التي أحدثت ضلالة المنحى!
للرسم متعة خاصة جداً لأنه يمنع الحواس ويدللها ويغذيها بالإحساس المفعم بالشفافية، وسواءً كان رسماً طبيعياً أو سريالياً يستحضر الواقع أو يبحر في الخيال، فالمتعة المتدفقة من أنابيب اللون وانحناء الفرشاة لا تعدلها أي متعة، ولقد جربت أن أعيش كفنانة تشكيلية لسنوات حين وضعت قدمي على أبواب المرحلة الإعدادية وحتى انتهيت من دراسة المرحلة الثانوية وفي الحقيقة إنني عشت حياةً مترفة بالإبداع لدرجة أن والدي بات يمنعني من ذلك الذوبان في علاقة لونية غير متكافئة بين حي وجماد لهول ما كنت الطخ أصابعي وكتبي المدرسية بكل فكرة لونية مجنونة تخطر على مخيلتي.
الرسم هواية تخرجك من طور التية وتدعوك لفك الحصار عن الأفق لأنها تجعل الأرض والسماء شيئاً واحداً، والفنون جنوناً وبناءً على هذه القاعدة التي أجد فيها الكثير من الصحة تجد لكل فنان تشكيلي أو شاعر أو كانت سمة جنونية عابثة تنشأ عن تفاعله الشديد مع عالمه الخاص بكل أدواته المعبرة عن وجوده كالفرشاة والألوان والأقلام والورق، فالفنان مهما كان نوع الفن الذي يقدمه يتوحد مع ذاته ويكون مع الطبيعة من حوله صداقة عميقة لأنه يراها أصدق وأعمق وأكثر نقاء من البشر الذين يمرون على صراط الجمال دون أن يشعروا به، بل إن أكثرنا لا يرى في أي شيء حوله أي جمال يُذكر وشخصياً أرى الحياة من حولي تضج بالجمال، قافلة الجمال بأعناقها المشرئبة، سكون الصخر وألوانه المتداخلة، أفواج البشر الغادية نحو سوق الحياة بكل ما أوتيت من قوة، ثيابنا التي تحتفظ بخصوصية اللحظة، عطورنا التي تعبر روائحها عن شخصياتنا، أصابعنا حين تكتب وترسم وتصنع الحلوى وتطهو الطعام، أعيننا التي تقرأ أرواحنا وتفضح رسائل قلوبنا..
كل شيء جميل.. حتى أنتم، نعم أنتم الذين تقرأون كلماتنا بإلحاح وتنتظرونها بشغف، أقسم أنكم أجمل ما في الكون! هذا الاستشعار للجمال هو من يفرز الرسامين والكتاب والشعراء وسواهم ممن يستطيعون فك طلاسم الطبيعة وقراءة مفردات الكون بإصرار، لولا وجود اللون في حياتنا لما أصبحت أحاسيسنا مفعمة بالفضول لمعرفة المزيد من زوايا كل لون ومعناه وتدرجاته الباذخة.
قبل أيام قليلة زرت امرأة تعيش الحياة بتفاصيلها غير آبهة بسفين الوقت لأنها لا تخاف أن يتمزق الشراع، أجلستني على زهرة بنفسجية حتى خشيت على أوراها أن تذبل لهول ما رقصت مشاعري فرحاً وأنا اتجاذبُ مع لونها النرجسي أطراف الحديث بعيني، كانت حُجرة جميلة إختارت صديقتي أثاثها بعناية شاعرية رقراقة بالأنس، مقاعدها بنفسجية اللون متدرجة وسجادتها كذلك، شعرتُ بالدفئ رغم عاصفة الثلج التي تعيشها مشاعري منذ أن بلغت أفكاري حلقوم اليأس لهول ما رأت عيناي من الظلم، فقط شعرت أن لوحة تخاطب الطبيعة بحقوق من الأزهار النائمة على صدور التلال هي الشيء الوحيدة الذي ينقص حجرة الجلوس البنفسجية التي أحببت لونها بشغف..
ألطاف الأهدل
الرسم، قصيدة الأصابع الواثبة 2386