حين تصبح ملامحنا العقلية مشوهة بذكرياتنا القاتمة حد العتامة وتسيج فناءاتها الواسعة سحائب الخيبة والإزدراء.. تلك الذكريات العقيمة تبدو كأدخنة تبعثها أفواه القطارات المهاجرة إلى محطات الموت بلا رجعة.. في تلك الذاكرة المتآكلة تقبع أشرطة الخوف من مستحيلٍ لم تكتمل فصوله حتى بعد أن غادرت الطيور أعشاشها بلا رجعة ولم تعد أبواب السماء موصدة أمام أفواج البلايا الصاعدة بلا وجل!.. في تلك الذاكرة تنام أجسادنا مصفدة بأغلال الماضي، عطشى للحرية، تنوء بأثقال الحزن المتراكمة حول سوقها تحت تراب النسيان، ذاكرة خالية من صوت الحب، جائعة لطعم الشجن، مترفة بالهم، غرقى في طوفان اليأس، ذاكرة تسكنها ضجة الصمت، تصول حول مآثرها فوضى اللامعقول، لأنها ولدت وماتت في قبر اللافكرة، تتألم عقولنا وتعيش ذواكرنا مساحةً من الفزع ولا تبزغ في سمائها ومضة طمأنينة إذا لم نجد من يأخذ بأيدينا للوصول إلى مساحة المعقول!، كل الذين يسكنون عقولنا ويستوطنون تلافيفها الضامرة يموتون على أعتاب أفواهنا حيت تنقضي ليالي الشتاء وتعود ليالي الصيف خاوية من الحنين.. يا الله كم تشتاق مشاعرنا لمرفأ على ساحل الذاكرة يحمل شحنة الحب إلى تلك البلاد البعيدة خلف أحداقنا، يا الله كم تذوب معالمنا ونحن نركض حفاة من هبوب الرياح حول أعناقنا الجائعة لمشانق الحب.. يا الله كم تشتاق شفاهنا للثم السراب حين عزت غمام الروح ببعض الندى.. في تلك الذاكرة ننام وتنام إلى جوارنا ذكرياتنا الثائرة، نغمض جفوننا على أنين اللحظة ونتوسد صرخة البوح المعلقة بيننا وبين ذاتنا العالقة في تلك الذاكرة، تتمدد الشرفات في أحضان نسمةٍ مترعة بالألفة لكنها مكتوفة الرغبة، شرفات ترقص على منصة أجسادنا حين تصبح الطرق إلى الحرية مغلقة والسُبل إلى عالم الإنسانية محفوفة بالغناء.. في تلك الذاكرة لا تتلون فصول العالم ولا ينتهي الليل والنهار ولا تتوقف أفواج البشر الراحلين منها وإليها عبر أحداقنا الباكية، في تلك الذاكرة تعيش ملايين الكلمات وتحيا ملايين المفردات لكنها لا تغادر أفواهنا إلا بعد فوات الأوان، في تلك الذاكرة تعيش وجوه وتموت وجوه، تسقط أقنعة وتبقى أقنعة، لكنها الوجوه الوحيدة التي لا تسكنها ملامح ولا تميزها سمات ولا صفات ولا تخرجها من قالب الجمود تعابير عابرة.. مجرد وجوه تسكن الذاكرة كمرض مزمن متفننة في صنع الألم كطعامٍ شهي حمل السم إلى تضاريس الجسد في رشفة صمت مغمورة بالشراسة واللؤم، في تلك الذاكرة ينام ماضينا ويتثائب حاضرنا ويأخذ مستقبلنا سنة من الغيب..
ألطاف الأهدل
وجع الذاكرة 2185