حين تصبح كلمة الحق ثقلاً تنوء به الألسن وحدثاً يثير غضب الذين لا يروق لهم مشهد الحقيقة من جميع جوانبها الظاهرة أو الباطنة وحين يصبح الصادقون هم القلة في أغلبية من الكاذبين أو من يتفننون في تشويه عرض الحقائق كما هي دون زيادة أو نقصان، وحين يكون للباطل اتباع وفرق ومطبلون وكهنة ويكون للحق مقاصل ومشانق وزنازين وعنابر لا تعرف لون الضوء أو رائحة الهواء.. حين يكون كل ذلك يصبح الاعتراف بالحق فضيحة بدلاً من أن يكون فضيلة وميزة وخلقاً قويماً، لقد وصلنا إلى زمن الكذب فيه حرفة وتزوير الوثائق فن والتدليس هواية والعبث بمصائر الناس تخصص من ماتت داخل أقفاص صدروهم معاني الإنسانية، زمن يمكن أن يُحكم على الناس فيه بالإعدام جراء جرة قلم شقية خطتها أنامل مصبوغة بترف البطش الفاحش، زمن تذوب فيه أحشاء الحقيقة كمداً وهي تستصرخ الغرقى في تفاصيل الكذب والإفك والبهتان دون جدوى، زمن تمنح الحريات لأرباب الفتك وأصحاب النفوذ وأولي الوصاية والتوصيف وتنزع من أهل الحق وخاصة الصدق ونخبة الولاية، يصبح الاعتراف بالحق فضيحة حين تكون له عورة تصنعها المصالح وتروج لها التوصيات وتحفها بالرعاية وحشية الغايات، بينما يبقى الحق في زاوية التهميش كماردٍ أليف تحيط به سياج الضعف والإستكانة والخذلان!.. نعم، نحن في زمن الحقيقة فيه مكروهة، طعمها مُر، وريحتها كريهة ولونها بغيض، وشكلها مثير للريبة، أما الباطل والزور والبهتان والكذب والتزييف فله أسواقه التي تعرضه بأجمل لون وأروع شكل وألذ طعم وأطيب نكهة! له أسواقه التي تروجه على خلفية من الأوهام والآمال وأحلام اليقظة التي لا تقف عند حد، له أربابه المسخرون لخدمته، وجمهوره المحبون لطلته وجيوش تقف خلفه ليبقى قائماً بلا قسط ولا عدالة! يصبح الاعتراف بالحق فضيحة حين لا تحميه الدول ولا تؤمن به الجماعات ولا تعتنقه الذمم ولا تهتف لأجله الشعوب، ويصبح الاعتراف بالحق فضيحة حين يكون للباطل رعايا وحكام وقادة وطوابير تشتري الذل أطناناً وتحتسي المهانة جرعاً حتى آخر نفس! يحدث ذلك حين تشهد أعيننا وتكاد تنطق أيدينا وأرجلنا وتئن ضمائرنا ثم نصمت كما تصمت الدواب أو أشد صمتاً! نصمت لتموت الحقيقة وترتفع راية الباطل حتى ما عادت هوية الإنسانية هي من تبصم ببنانها على سلوكنا وهي من تصنع بشفافيتها معالم نخوتنا وشهامتنا وبعض الرحمة تحملها وهناً على وهنٍ قلوبنا..
تصبح الحقيقة مرة حين تكون حبالها موصلة بحبال الأمنيات الآسنة في بحر الخراب، وتصبح أكثر مرارة حين يبيعها من هو أحق بملكياتها ويشتريها من ليس أهلاً لها، وتصبح علقماً حين يصورها المفوهون حجراً عثرةٍ أمام التقدم والتميز والازدهار ويلبس الباطل ذهوب القبول والاستشراء والثبات.. نحن في زمن تغص فيه حلوق الناس بكلمة وتقطع أحبالها بكلمة وتستأصل نواياها بكلمة أيضاً، أصبحنا نرى الباطل أقرب ما يمكن والحق أبعد ما يمكن لكنه أيضاً أغرب ما يمكن!.
ألطاف الأهدل
الاعتراف بالحق.. فضيحة! 1902