تعودت أن أقرأ اللافتات والشعارات والعبارات على طول الطريق التي أسير فيها حتى تختزن ذاكرتي عناوين المدينة دون شعور مني بأن ذاكرتي أصبحت دفتر عناوين وإن كانت لا تجد لها على هذه البسيطة عنواناً.
اكتشف الكثير في إحدى المرات وأنا أمارس دور الرقيب الخفي وأثناء قراءة إحدى العبارات لفت نظري حجم الجهل والأمية التي يحياها الشعب راضياً مسترضياً، عبارة بسيطة وشهيرة مفادها "اليمن أغلاء" والمقصود "اليمن أغلى"، واصلت مشواري وأعصابي تكاد تحترق، إذ لا مبرر يجعل هذه العبارة تطبع وتعلق على الجدران وفي السيارات والمكتبات ومختلف الأماكن العامة بإملاء خاطئ وبهذه الفداحة.
المهم وصلت إلى عيادة طبيب الأسنان وأخذت أناقش إحدى المريضات في أمر تلك العبارة وهي فتاة لا تتعدى سن الخامسة عشرة، أذهلتني وحسمت موقف العبارة الخاطئة بحركة ذكية وسريعة حين قالت: يا أستاذة هم يقصدوا "اليمن غلاء"، شاطبة حرف الألف بسرعة ومحققة بذلك واقعاً مراً يعانيه الناس من مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية.
"خلود" الطفلة اليانعة اختصرت معاناة شعب في جرة قلم خفيفة أزالت الألف ووضعت مكانه أثقال المعيشة وهمومها، وازنة الجملة لغوياً واجتماعياً واقتصادياً، الحقيقة أن تلك الحركة السريعة والنبيهة من تلك الفتاة المهذبة تنم عن عمق مأساة الغلاء في قلوب الصغار قبل الكبار، فلولا هذا الغلاء لحصل كل طفل على حصته الوافية من الطعام والشراب الصحي والمتنوع ولارتدى كل منهم ما يعجبه من الثياب ولاستمتع الجميع باللهو والمرح في هذه الحديقة أو تلك..
حب الوطن عندنا شعور مفقود وقد لا يدرك هذه الحقيقة إلا قليلون ممن يعرفون تفسيراً واضحاً لمعنى الانتماء، ولو أننا أحببنا هذا الوطن حقاً ما تركناه يغرق في وحل مياه المجاري وأكوام المخلفات، بل لو أننا كنا نحبه ماوقف بعضنا في وجه بعض لحظة تصفية حساب قديم ما عادت تستطيع استرجاعه ذاكرة التاريخ.
انتماؤنا سقط سهواً كما تسقط العبارات والحروف في تلك الجمل التي تخطها أيادٍ غير مدربة على استشعار الخطأ وتحقيق الصواب، أذكر أن عبارة أخرى كتبت وطبعت على شهادات تقديرية وزعت على مجموعة كبيرة من المشاركين والمتميزين والمبدعين في إحدى الفعاليات الهامة قبل فترة وجيزة، ولم يدرك أحد قدر الخطأ اللغوي والشعري الذي شوه معنى البيت وبّدل مقاصده.
لازلنا تحت خط الفقر وتحت خط الجهل وحتى عندما أصابتنا حمى الحضارة والحداثة والتقدم استخدمنا تلك الحضارة في ترسيخ مفاهيم الجهل ووسعنا محاوره، فهاهي التكنولوجيا بشاشاتها الفضية ومحمولها وفسبكتها تغرق الجيل في معركة الحواس لتبقيهم عبيداً لهوى الرغبات حتى أصبحت أجسادهم مقابر لا تصلي على أبوابها إلا الغربان.
فلماذا يسقط حب الوطن سهواً؟، لماذا يسقط الأمان سهواً؟، لماذا سقطت جحافل الشباب سهواً؟، أي وطن هذا الذي بقي دهراً في قبضة الجهل وحين استفاق من ظلمة السحر والخرافة والجدل يأبى هذا الشعب إلا أن يعيد التاريخ نفسه من جديد، فمن يوقف هذا التاريخ؟ لقد أوشكت الحياة أن تنقضي ولم يكتمل بنيان هذا الوطن.
ألطاف الأهدل
سقط سهواً ...... 1970