لا تستقيم أحداث الحياة على وتيرةٍ واحدة بالرغم من أن نظامها الكوني الفيزيائي لا يتغير أبداً، فالشمس والقمر دائبان على وتيرة الشروق والغروب والتوقيت والإنارة والليل والنهار يكور الله كل منهما على الآخر، فيلف الليل على النهار لتظهر الظلمة كما يلف الإنسان جسده بالثياب ساتراً عورته ومحاسن جسده! وكل مخلوقات الله مسخرة لخدمة الإنسان، فبحر يحمل على ظهره الفلك، وسحاب تحمل في بطنها المطر وأرض تنشق استجابة لأمر الواحد الأحد في إنبات الزرع وأنعام ترى أمام الإنسان خاضعة والكثير الكثير مما علمنا ومما لم نعلم، كل شيء مسخر ليؤدي هدفه ويبلغ مداه، لكن من هذه الأشياء ما يفن ويتجدد كالزرع والضرع مثلاً، وهذا فقط لإكمال الغاية من بقائه المرهون ببقاء الإنسان.
ومما في الحياة ما لا يبقى إلى الأبد، كالإنسان نفسه بتاريخه وجغرافيته، فمن عروش وممالك وأمم اضمحلت وانتهت وتهالكت، إلى حضارات أثرية بقي منها القليل فقط كشاهدٍ على حدوثها فيما مضى وكعبرة لأمم تتلوها أن لا شيء يبقى إلا الأبد.. الأقوام العظيمة بُنيةً وبناء عاشت وانتهت، اتخذت فرصتها في الحياة وفي ممارسة الدور الأيديولوجي الذي خلقت من أجله، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولم يترك الله قوماً على جهالةٍ من أمرهم أبداً، حيث كان هناك سلسلة بشرية من الأنبياء والرسل والصالحين وأصحاب الكرامات الخارقة، كل أدى دوره ورحل ولم يبقَ من ذلك شيء، ونجد أنفسنا أحياناً نقف بإجلال أمام قاعدة علمية عميقة المضمون: المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم ولكنها تتغير من شكلٍ إلى آخر" ولهذا القول: إن بعض ما في الحياة يستحدث لأنه باقٍ بغرض نفع الإنسان وإبقاءه مستفيداً من كل ما يمكن أن يحفظ إنسانيته ويقدس بشريته ومع ذلك ورغم وضوح تلك القاعدة العلمية تأتي الآية القرآنية لتؤكد زوال كل شيء وفناءه عدا شيء واحد (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) الرحمن (26،27).. لكن المتأمل أكثر في معنى الآية يجد أن كلمة (من) تعني الإنسان ككائن عاقل وتستثني ما عداه من أشكال المادة وأنواع المخلوقات المسخرة لخدمة الإنسان وكأن هذا الكوكب الكبير بكل ما فيه من أمور عظيمة ظاهرة وأخرى باطنة باقٍ لحكمةٍ إلهية حتى بعد فناء الإنسان! استنطاقاً للقدرة وترغيباً بالمشيئة. إذاً ففناء الإنسان دنيوياً حقيقة وخلوده أخروياً حقيقة أيضاً، وبهذا يعيش الإنسان حياتين مختلفتين زماناً ومكاناً لكنهما متوحدتان جزاء ومآلاً.
والحقيقة التي يجب أن يعقلها الإنسان هي أن الموت ليس المحطة الأخيرة له، بل إن الحياة بمعناها الأبدي والسرمدي تبدأ بعد الموت وهي الحياة التي لا تنغصها نقائص الطبائع البشرية ولا تثقل كاهلها لوازم العيش الرغيد وإعفاف النفس عن الحاجة إلى الناس.
الفناء لغة مرادفة للوجود بكل ما فيه ولو لا مفرداته النابعة من العدم ما عاشت آثار الأمم وما اندثرت شواهد وجودها، ولولاه أيضاً ما تغيرت حالة التاريخ ولبقيت الجغرافيا ساكنة.
كلُّ (من) عليها فان، لكن كل (ما) عليها يبقى شاهداً على (من) كان فيها.
altafalahdal@hotmail.com
ألطاف الأهدل
كل من عليها فان 1974