شعرت وأنا أستبطن فراغ ذاكرتي بالحنين أن لا شيء يمكن أن يصف تلك المشاعر المرهفة التي يمكن أن تنشأ بيننا وبين الجماد من حولنا، إنها لغة خاصة قد تبدو مفرداتها ساكنة، لكن شحنة ديناميكية تحول تلك الأشياء الخاوية من الروح إلى مفردات ملهمة ومؤثرة ومحاورة جيدة على أنغام الصوت والصدى حين نسكنها وتسكننا وتصبح جزءاً من كل ناطقٍ بالحياة والتفاعل، من منا لا يشعر بالراحة لزاوية معينة في منزله لا يطيب لهُ الجلوس إلا فيها، هي أو أوراقنا وأقلامنا، سياداتنا، مكاتبنا، وحتى زوايا الحارات والشوارع والصحاري والحقول... نعم يحن الطين دائماً لأصله ولهذا نحب رائحة الأرض بعد هطول المطر، نعشق طعم التربة العالقة بعشب المزارع، ونتلذذ بسنابل القمح تتمايل بفرح بين يدي الريح تلك الألفة الصامتة، وذلك الحب بين طرفين أحدهما لا يمكن أن يبادلك الشعور نفسه والآخر يتمزق ودّا والتياعاً في حضرة حبيب من جماد، كل تلك المشاعر تخلق لتولد جديدة كل يوم لأن احدهما لا يمكن أن يرفض وجود الآخر في حياته، إذ لا يمكن الزاوية في شرفة تحتضن أنفاسنا وأجسادنا وأحلامنا كل يوم أن تلفظنا خارجها، معلنة الرحيل إلا أن نرحل نحن سفراً أو موتاً، قد نشعر بالغربة ونحن مع من نحب من البشر لكننا لا يمكن أن نشعر بذلك في حضرة ما نحب من الكتب في مكان هادئ على أريكة وتيرة، لا يمكن أن نشعر بتلك الغربة في ساعة صباح بهي ونحن نرتشف قهوتنا الساخنة، تلك الألفة العجيبة بيننا وبين فناجين الصباح المدهقة بالحرارة والدفئ لا يمكن أن نتجاهلها وتمُر عليها كما تمر الدواب خاضعة أمام كل هذه العظمة وهذا الجمال، الصمت هو مفردة التفاهم بيننا وبين زوايانا التي نحب، في ظل الأماكن تنشأ الذكريات وتحيا اللحظات ويؤرخ لميلاد المواقف سواءً كانت مواقف حب أو كراهة، وفي ظلها أيضاً يتزاوج الزمان بالمكان مثمراً متعة الإحتواء والسكون، وفي هذا الظل أيضاً تتبعثر قيم التفاعل والانسجام لتخرج عن قالب الأجساد إلى قالب الأرواح والعقول ومن ثم الوصول إلى درجة السمو والتعالي عن الجراح! لهذا فقط قد يكون للمرء منا منزل أنيق يحوي أثاثاً فخماً ومع هذا فهو يعشق الجلوس من زاوية ما أمام منزله أو مقر عمله أو لدى بعض أصدقائه ويرى أن الدنيا بأسرها تأتيه راكعة وهو يعيش لحظات ألفة مع زاويته تلك لم يعشها في منزله، جربت ذلك مراراً في منازل كانت تناديني بعض زواياها حتى أصبح بينى وبينها "عشرة عُمر" ولو لا أن يتهمي البعض بالشطط لقلت "عيش وملح" لأنني كنت أشعر وأنا أسكنها في لحظةٍ ما احتسي قهوتي أو تحتسيني أحزاني بعد جلسة روحانية، هل استعذبتم خلالها طعم المناجاة مع الله وشعرتم أنكم أصبحتم بمعيته ولو للحظات قصيرة، حين تخفق قلبوكم بحاجتها إلى الغذاء لا تحرموها من ذلك ابداً وأفضل ما يمكن أن تقدموه لها بعض آيات من كتاب الخالق العظيم الذي قال: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) سورة الرعد (28) وحين تشعرون بالكآبة الشديدة اختلسوا من يومكم اوليلتكم دقائقاً للتوحد مع أرواحكم، ذوبوا في ذواتكم، حاسبوا أنفسكم، استشعروا آدميتكم، وكونوا بسطاء في الحديث مع قلوبكم، أنتم ضعفاء جداً، فقراء جداً، وبحاجة ماسة للقوة والمدد ولن تحصلوا عليهما إلا بإعطاء أنفسكم فرصة اكتشاف الذات الجميلة والأنا الطيبة التي تحملونها بين ضلوعكم. إذا أصبحنا مثقفين على أن لرسائل الجسد أهمية قصوى في تحديد مكامن الضعف والقصور والخلل قبل أن تستفحل وتؤذي.. فلنحسن قراءتها وإلا فإن فاتورة إنذار ستصل بعدها مباشرة! وقد لا تستطيعون دفعها مطلقاً.
/////
ألطاف الأهدل
بعيداً عن الظل 2357