يرتدي الإنسان في لحظات قوية قناعاً متماسكاً من طين الغرائز وذرات الغرور ونفحات الافتتان بالمال والسلطة وجبروت الصحة، ولكنه يتحول إلى كائن ضعيف جداً حين يفقد كل ذلك أمام إرادة القدر.. ولهذا كان هناك (خطوط رجعة) إلهية وضعها الله للإنسان حتى تتناسب مع فطرته المندفعة نحو البقاء والخلود، الدعاء واحد من (خطوط الرجعة) والذي يحمل فرصة رد القضاء، لأنه يتصارع معه بين السماء والأرض، فينتصر الدعاء ويعود القضاء بفضل من الله ورحمة ومنّ عظيم، الكفارة، الصدقة، الزكاة، هي أيضاً خطوط رجعة عن مواقف إنسانية صلبة لا يكسرها إلا تلك الخطوط الممتدة من السماء إلى الأرض في علاقة إلهية إنسانية سامية، يرعى فيها الخالق هذا المخلوق الصعب الذي ينسى ضعفه ويتناسى قوة خالقه.
هذه الأيام هي أيام عودة عن قرارات ومواقف رحلت في قطار عام كامل، ذنوب، آثام، خفايا وخبايا صغيرة، وربما كبائر تغاضى عنها الإنسان، لكن لن تتغاضى عنها صحيفة أعماله، ولهذا كانت هذه الأيام وكانت نفحاتها وساعاتها التي تعدل وزنها ثقل الكون وربما أكثر.
هي دعوة لكل من يشعر اليوم أن ذنوب عام كامل تراكمت على قلبه حتى تغشت مشاعره وحرمته متعة تذوق ذلك الرحيق الإيماني المختوم بالنوايا الحسنة المكللة بمشاعر الرضا والسكينة، هي دعوة لكل من قع في مساحة اليأس والقنوط رغماً عنه بما كسبت يداه، وهي دعوة لمن شغلته دنياه عن تلمس أوجاع أصحاب الألم المادي والمعنوي وكل من حرمته أقداره من أن يبتسم، ليس لأنه لا يملك شفاهاً ولكن لأنه ربما كان أعمى لا يرى من يقف أمامه، وربما كان جسده مدججاً بألغام سرطانية، فهو لا يستشعر روعة الحياة من حوله لا لوناً ولا شكلاً، أو لأن الدين (بفتح الدال) أغلق أمامه منافذ الأمل وتعسرت عليه الابتسامة كما تعسر عليه رد الحاجة إلى أصحابها.
هناك أبواب كثيرة لتفريج الكربات عن النفس وأولها تفريج الكربات عن الناس، فهذا عمل يرفع مقام الإنسان أمام نفسه ويثقل وزنه في كفة رضا خالقه وهو سبيل لتحقيق مبادئ اجتماعية متشابكة تقف على رأسها الثقة بما عند الله وحسن التوكل عليه ويظهر من بينها الإيثار والسير على منهج القدوة المحمدية التي لم تترك للإنسان فرصة الشك أو الريبة بخاتمة المرء الترابية التي تنتهي كما تبدأ مع كل نفس بشرية.
هي دعوة لكل من زلت قدماه واقترف من كبائر الذنوب أو صغائرها ما لم يعلمه إلا الله وصاحب هذه النفس الضعيفة التي لم تستطع أن تضع بينها وبين سبيل الشيطان حاجزاً.. وإذاً فها هو الباب مفتوح على مصراعيه ليدخل منه كل من أراد أن يمحو خطاياه بالإحسان والبذل والعطاء والمسح على الرؤوس الخاوية من طعم الراحة.. ولا ينسى الجميع أن جراح الناس اليوم أعمق ومصائبهم أعظم وحاجاتهم أقوى من كل عام مضى، لأن منا من يواجه الموت جوعاً وجهاً لوجه بعد مجاعة يعلنها الإعلام ظاهرة، لكن باطنها أعظم.. ومن أصحابها من لا يظهر في الصورة ولا يحب أن يسأل الناس إلحافاً، فهيا قبل أن ينقطع حبل الحياة وتنضب موارد الأجر ويصبح الجميع تحت أطنان التراب بين يدي الجليل.
ألطاف الأهدل
قبل أن ينقطع حبل الحياة 2019