كل أنواع الفساد سواء كان منها السياسي أو المالي أو الإداري أو الحزبي، من الممكن معالجتها بجهد الصالحين و بصبرهم وتوحدهم وتعاونهم وتضحياتهم ونكرانهم للذات في سبيل الآخرين وباستخدامهم الأساليب الشريفة والأيدي النظيفة والرؤى الواضحة.كل ذلك قد يقع في عالم الممكن وواقع الممارسة الإصلاحية وبدرجات متفاوتة من النجاح وضمن مساحات زمانية ومكانية مختلفة وذلك في إطار تغيير الأنظمة أحياناً أو إصلاحها أحياناً أخرى بالرغم من كل محاولات قوى الشد العكسي بالإبقاء على ما كان كما كان أو بأساليب المراوغة وطرح القديم بثوب جديد.
إن إصلاح الفساد في صورته الجمعية ممكن لدرجة لا يستهان بها على ارض الواقع لكن هذا الإصلاح وعلى صورته الكاملة الحقيقية لا يمكن أن يتحقق من خلال تغيير بعض السياسات والأنظمة وبعض القوانين وأبعاد بعض الأشخاص والرموز من مواقعهم القيادية،ذلك ان مثل هكذا إصلاح سرعان ما يتحول إلى صور مختلفة من التضليل والخديعة حيث يتعرض المجتمع بفعل بعض وسائل الإعلام ومكانته المتمرسة في عمليات غسل الأدمغة لحد تجعل من الحليم حيراناً، بحيث يتم تصوير الأمور وكأن المطلوب قد تحقق وأن ليس في الإمكان أحسن مما كان.
أما الفساد الذي من بالغ الصعب على قوى الإصلاح إصلاحه فهو فساد الإنسان الفرد، بل هو بالتحديد فساد النفس، إنه الفساد الذي قادنا إلى كل أنواع الفساد الظاهرة منها والباطنة. فليس من السهل أن تنجر النفس السليمة إلى أي نوع من الفساد فسلامة النفس هي المناعة الحقيقية ضد كل إشكال الانحراف السياسي والمالي والإداري وغيره ولكي يقوم الإنسان بالإقدام على مفسدة أي كان نوعها وحجمها، فلا بد أن يكون لديه الاستعداد النفسي والحركي للقيام بذلك، مما يعني أن لديه نفساً فاسدة وهذا بالطبع يكون ناتجاً عن عقيدة وفكر فاسدين وعن فقدان للمناعة الأخلاقية التي تجعله مطياعاً أمام الإغراء المادي ومنصاعاً للترغيب والترهيب.
إن مناعة النفس البشرية ضد الفساد والانحراف هي مناعة فطرية وهي من طبائع الإنسان أياً كان دينه ومعتقده وهي موروثة ومتوارثة عبر الأجيال تنبع من طبيعته كإنسان يحب الخير ويكره الشر بشكل عفوي منذ الطفولة، بعدها تنمو هذه المناعة في أرض منظومة القيم التي تتشكل في الوجدان بفعل الأفكار والمعتقدات المكتسبة من الدين السائد والنظم السياسية الحاكمة والنسق التربوي المتبع في الوسط الذي يعيش فيه هذا الإنسان فرداً ومجتمعاً, بعدها يتوالى مسلسل من التفاعلات السلبية والإيجابية وهنا تتشكل الشخصية المجتمعية بكل ما فيها من تناقضات مختلفة حسب الظروف الحياتية التي يشكلها النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي الحاكم مستخدماً مختلف الأساليب النابعة من طبيعة هذا النظام أو ذاك..
إن فساد الفرد وفساد المجتمع يغذي أحدهما الآخر وهما في علاقة جدلية دائمة والعلاقة المشتركة بينهما هي فقدان المناعة الأخلاقية وغياب منظومة القيم التي تستند إليها المجتمعات، ونحن في مجتمعنا العربي بما فيه يمننا الغالي، من المفترض اننا نستند الى منظومة القيم الإسلامية، التي من المفترض أنها تمدنا بالمناعة الكافية لحمايتنا من مرض الفساد, فهل نحن كذلك؟.. إن ما نراه ونعيشه مناقض لكل مفردات منظومة القيم الإسلامية التي ندعي وجودها فينا وبيننا منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، فالإسلام عندنا ليس أكثر من طقوس ومظاهر وعبادات الأصل أنها علاقة بين العبد وخالقه ولا نكاد نرى الإسلام القيمي الذي يؤصل للعلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان في المجتمع خارج حدود المساجد والجوامع. وحتى العبادات أضحت طقوساً لا روح فيه ولا رائحة، فالصلاة إذا لم تنه عن الفحشاء والمنكر فهي صلاة باطله,وصلاة الجائع والخائف باطلة,والصيام إذا خلى من التقى والتصدق على الفقراء والمحتاجين والجياع فهو صيام باطل والزكاة الناقصة والتي تنفق في غير مواضعها هي زكاة باطلة.
منظومة القيم الإسلامية أين هي ؟ أين الصدق في المعاملات الشخصية والرسمية ؟ أين الصدق في التعامل مع الذات ومع الآخرين بدفعها نحو الحق والحقيقة وأبعادها ؟ بل وردعها عن الباطل والكذب, أين الصدق في تزكية الناس بعضهم لبعض ؟ أين الإخلاص في العمل بأداء ما هو مطلوب والابتعاد عن كل ما ليس له علاقة بأداء الواجب ؟ وأين الجودة في الصناعة والحرفة والإنتاج بتطبيق المعايير المثلى كما وكيفا ؟ أين الأمانة في حمل المسؤولية كاملة وتحمل ثقلها وتبعاتها والدفاع عنها وحسن أداءها والتصدي لكل من يحاول العبث بكمية وكيفية أداء هذه المسؤولية ؟،أين الأمانة في إعطاء كل ذي حق حقة قريباً كان أم بعيداً ؟ أين الأمانة في الحفاظ على مكان العمل وأدواته والحفاظ على المال العام؟ أين الصراحة في التعامل مع النفس ومع الآخرين وحسن المعاملة بعيدا عن المجاملة والملاينة على حساب الصالح العام ومصالح الآخرين ؟ أين المصارحة والمناصحة وقول الحق بما ينفع الناس ونبذ النفاق والمحسوبية ؟ أين العدل في إحقاق الحقوق بين الناس وإبلاغها لكل فرد بما له وما عليه دونما تمييز؟ أين الأخذ بيد الضعيف إذا سلب حقه والمظلوم إذا أوقعت عليه مظلمة والجائع إذا سرقت لقمة العيش من بين يديه والعاطل عن العمل إذا سدت في وجهه أبواب الرزق الحلال ؟ أين الأخذ على يد الظالم حتى يرعوي ويعود إلى جادة الصواب طوعا أو كرها بسيف العدل وقوة القانون؟
إن منظومة القيم التي لا يمكن لمجتمع بشري أن يتواجد وأن يتطور وأن يعيش بشكل قابل للاستمرار والحياة بدونها هي ضمير الأمة الجامع لكل فضائل المعتقدات السماوية والوضعية والأفكار النيرة والأمثال والحكم الدارجة على السنة الصغار والكبار والقصائد من وجدان الشعراء الملهمين.. أين ضمير الأمة؟ وأي أمة هذه التي تردد بدون حياء أمثال تقول: ( اليد التي ما تقدر عليها بوسها وادع عليها بالقطع...قلوبنا مع فلان وسيوفنا مع علان...) إن منظومة القيم لدينا نراها في مجتمعاتنا قد تآكلت وذبلت واضمحلت عبر قرون من الظلم والاستبداد وفتاوى علماء الحكام والسلاطين. بالرغم من اننا كأمه ملكنا ونملك منظومة قيم محترمة ولكننا رميناها وراء ظهورنا فشاع الكذب شيوعا مفرط على مستوى الفرد والمجتمع حتى صرنا عاجزين عن تصديق كل ما يقال بيننا ومن حولنا، وشاع الغش في المأكل والمشرب والصناعة والتجارة وضاعت الأمانة في أداء العمل المعاملات،وأصبحت الحاجات لا تقضى الا من خلال الواسطة والمحسوبية وأصبح أداء العمل وانجاز مصالح الناس في المؤسسات العامة والخاصة يتم بمزاجية فجة وانتقائية بشعة فرقت أبناء المجتمع على قواعد التمييز الأسري والقبلي والإقليمي والمنبت والأصل وأصبح التعامل بين الناس على الهوية بعد أن تم انتهاك مبدأ المواطنة وتكافؤ الفرص بشكل يدفع المجتمع بأكمله دفعا مفزعا نحو الشلل والفوضى والمزيد من العنف المجتمعي وتمزيق المجتمع على أسس إقليمية وجهوية وقبلية وأصبح الجميع يعيش في ضبابية فكرية وسياسية وعقدية لا يجد سبيلاً للخروج من إنفاقها ودهاليزها.
إنني أرى أن الإصلاح النفسي بكل حركاته ورجالاته والمغالبة التي يمارسها، أراه يخوض حرباً خاسرة ما لم يحارب على جبهتين أولاها جبهة الفساد السياسي والثانية وهي الأهم جبهة فساد منظومة القيم التي نسيناها أو نتناساها والتي لا يمكن أن نكسب الحرب ما لم ننتصر فيها.. ذلك أن المجتمع الذي تسود فيه مظاهر الكذب والغش وفقدان الأمانة والنفاق وضياع الحق وخيانة المسؤولية على مستوى الإنسان الفرد,هذا المجتمع بكل بساطة لا يمكن إصلاحه.
معاً لنجعل هذا الشكر المبارك، شهر الخير والبركات، شهر رمضان، لنجعله مدرسة لتصحيح النفس، وإصلاح منظومة القيم فينا وفي مجتمعنا.
رائد محمد سيف
فساد النفس وإصلاح القيم الإنسانية 2701