منذ البداية قلنا وقال كثيرون إن ثمة سيناريو للإبقاء على اليمن غارقا في دوامة العنف والفوضى والنزاعات السياسية والحزبية والفئوية والجهوية وإن هناك في الداخل والخارج من ينتظر اللحظة التي تسقط فيها مقومات الدولة وانهيار النظام القائم وانزلاق اليمن نحو الصوملة أو الأفغنة باعتبار أن انحدار هذا البلد الذي يعد الحلقة الأضعف بين جيرانه كفيل بإرباك حسابات إقليمية ودولية وخلط الأوراق في المنطقة .. إلا أن هذا الأمر لم يؤخذ بعين الاعتبار من قبل أصحاب القرار في هذا البلد شأنهم في ذلك شأن الكثير من العرب الذين لم يهتدوا بعد لما يحاك ضد شعوبهم وبلدانهم حتى وهم من علموا بأن هناك من يسعى إلى إعادة تشكيل الأقطار العربية على أسس مذهبية وطائفية وكانوا أيضا على اطلاع بتفاصيل مشروع (الفوضى الخلاقة ) منذ كوندليزا رايس حتى جون كيري وهو المشروع الذي تقوم منهجية على تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ في جغرافية العرب الرخوة والهشة.
لقد علق الكثير من اليمنيين آمالهم بعد موجة (الربيع العربي) على بدء مرحلة جديدة وانطلاقة حقيقية تخرج اليمن من نفق التخلف والتقوقع بين الدولة واللا دولة إلى فضاء الاستقرار والرخاء والأمن غير أن الخيبة كانت اكبر بكثير من كل تلك الأحلام وكل تلك الأمنيات فقد تم إفراغ الشعارات التي كانت تعد اليمنيين واليمنيات بنعيم الجنة الموعودة من أي مضمون واقعي بل إن تطلعات الشباب الذين خرجوا يهتفون للتغيير وقيام الدولة المدنية الحديثة سرعان ما وجدوا أن تطلعاتهم قد سرقت من وراء الحجرات ومن أمامها أيضا ومن بين يديها ومن خلفها لينقسموا بين مصدق وغير مصدق وبين مستغرب لما جرى وهم يرون أن كل الوعود التي كانوا يسمعونها قد تبخرت وان الكل قد مضى للبحث عن مصلحته ومصلحة حزبه ومصلحة جماعته ليعود هؤلاء الشباب من الميادين والساحات بخفي حنين يحملون خيباتهم التي كانت أشد وطأ وأسوأ قيلا.
ما زلت أتذكر أنني في مطلع عام 2011م وحينما كانت انتفاضة (الربيع اليمني) في أشد عنفوانها قد التقيت بصحفية أجنبية قدمت لتغطية أحداث هذا الربيع وقد سألت يومذاك هذه الصحفية التي تعمل لصالح وكالة أنباء أوروبية عن انطباعاتها حيال ما يعتمل في العاصمة صنعاء التي كانت حينها مقسمة إلى ثلاث مناطق من أحداث وزخم ثوري؟ فردت تلك الصحفية بمجموعة كلمات لا زالت عالقة في ذهني إن لم أصبح مسكونا بها حتى اليوم حيث قالت: مهما كانت مشروعية الغايات التي خرج من أجلها ذلك العدد من اليمنيين إلى الميادين فإنما يخشى منه هو أن تتآكل هذه المشروعية تحت إيقاع صراع المصالح وغابات البنادق التي تنتشر في هذا البلاد والتي إن لم تجر إلى الحروب فإنها من تقود إلى الفوضى فكلما عم السلاح شعبا سادته التصرفات البدائية.
ورغم ما في هذا الوصف من تعبيرات ودلالات يبقى من الثابت أن تلك الصحفية الأجنبية إنما أرادت القول إنه وطالما بقيت اليمن رهنا لفوضى انتشار السلاح فكيف لا تظهر فيها المليشيات والجماعات المسلحة التي تنازع الدولة نفوذها وسلطاتها ولعل هذه الصحفية والتي بدت أكثر تعاطفا مع اليمن كانت أقرب إلى الواقعية وهي تشير إلى أن معضلة الدولة في اليمن أنها التي سمحت بجعل السلاح مشاعا مع أن مسألة كهذه تتعارض كليا مع الأسس والقواعد ذات الصلة بمقومات الدولة والمؤسف حقا أن هذه الحقيقة من نسعى إلى القفز عليه بمبررات واهية وكاذبة وزائفة وكان هذا البلد قد كتب عليه أن يظل مخطوفا من حملة البنادق ومستباحا من الجماعات المسلحة أو أنه من فرض عليه أن يعيش فى حالة متوترة ومحروما من الاستقرار اختلف اللاعبون أو تباين الجناة فإن النتيجة تظل واحدة هو أن يبقى هذا البلد على حافة الهاوية تتقاذفه الصراعات الداخلية والحسابات الخارجية وعلى النحو الذي يحدث اليوم في صنعاء عاصمتنا العصامية التي تحاصرها البنادق من جهاتها الأربع تماما فكما يختطف (بفتح الطاء) الأفراد تختطف العواصم والأوطان والدول والمجتمعات.
خلال السنوات الثلاث الماضية أضاعت السلطة الحاكمة العديد من الفرص التاريخية والتي لو استغلت بشكل صحيح لما وصلت الأوضاع باليمن إلى ماهي عليه اليوم ولما حدث ومازال يحدث من الكوارث والمآسي في مناطق واسعة من هذا البلد الذي أدمن البعض على تخريبه وتدميره عن طريق تسعير الفتن والحروب والصراعات وهدم مكونات الدولة.
يقول الفيلسوف المادي كارل ماركس: يتكرر التاريخ مرة على هيئة مأساة ومرة على هيئة ملهاة وذلك ما حدث بالضبط في اليمن فبالأمس جرى اختطاف مشروع الدولة ببنادق القبيلة واليوم يختطف هذا المشروع ببنادق المليشيات والجماعات المسلحة التي أسقطت من أيديولوجياتها جميع المفاهيم التي جرى تداولها في مؤتمر الحوار الوطني عن الدولة المدنية الحديثة والحكم الرشيد وهو الاختراق الذي يعيدنا بالضرورة إلى المربع الأول إن لم يكن إلى ما هو أسوأ منه ومع ذلك فلا يبدو أن السلطة الحاكمة قد تنبهت إلى خطورة الأوضاع التي يمر بها البلد في اللحظة الراهنة والا بما نفسر ما يحصل على ارض الواقع في العاصمة وغيرها من مناطق اليمن إلا إذا ما كانت هذه السلطة لا ترى ما نراه ويراه الناس من انفلات وقلاقل واضطرابات في ثلثي الأرض اليمنية وهما الثلثان اللذين خرجا عن سلطة الدولة أو أن هذا السلطة لا تعلم أن مركز الدولة قد أحيط بالمخيمات والحواجز والخنادق وأن عمران وصعدة وأجزاء كبيرة من محافظة صنعاء وحجة ومأرب أصبحت تحت راية انصار الله والجزء الآخر كحضرموت وأجزاء واسعه من شبوة وأبين ولحج والبيضاء صارت تحت راية أنصار الشريعة فيما يقبع من في الأطراف تحت رحمة مهربي المخدرات والنفايات ومزوري الجوازات والمتاجرين بالبشر.
ولعل الأمر لا يختلف كثيرا لدى القوى والأطراف المشاركة في العملية السياسية ومؤتمر الحوار الوطني التي تظهر في مواقفها وكان اليمن بالنسبة لها لم يعد موضوعا مهما بقدر ما يهمها هو الدفاع عن مصالحها ونصيبها من مغانم السلطة لذلك فلم نجد أحدا منها يشي برغبته في الاعتذار من هذا الشعب المنكوب والمستباح الذي بات يدفع الثمن باهظا من دمه وأمنه واستقراره نتيجة أخطاء السياسيين المستمرة والمتصاعدة.
سيكون من السذاجة أن ننتظر من أحد هؤلاء السياسيين الاعتراف بشعوره بالعار أمام ما يحصل لبلد كانوا مسبقا قد وقعوا على خرائط تقسيمه أو على الأقل تفكيكه في مؤتمر موفمبيك لقناعتنا أن جميعهم لا يشعر بتأنيب الضمير لأنهم في الأصل كما يهمسون في الغرف المغلقة كانوا مسيرين لا مخيرين إن لم يكونوا مجرد بيادق ينقلها بين المربعات اللاعبون الأساسيون ممثلون بسفراء الدول العشر والمبعوث الأممي جمال بنعمر الذي يعود إليه الفضل في أنه من جاء إلينا محملا (برشتات) جاهزة لكل أوجاعنا وأمراضنا كما فهمنا من تصريحات فريقه الفني بل إن ذلك المبعوث الأممي هو من سعى إلى تطبيق أول تجربة للتطور العكسي هي الأغرب على وجه الأرض في هذا البلد ليقودنا من خلال تلك التجربة من الوحدة إلى الاتحاد ومن الدولة الراعية إلى الدولة الجابية ومن روح الوطنية والمواطنة إلى واقع المحاصصة والتقاسم على أساس الانتماء الجهوي والمناطقي وكوتا النوع الاجتماعي القائمة على التمييز في الجنس كما انه من استطاع بعبقرتيه ودهائه أن يحولنا من فرقاء متباينين في التوجه إلى متحاربين على أرضية التوافق.
وأعتقد أن حسابا جادا لن يخطئ صاحبه في أنما نشهده اليوم من جنون يصل إلى حد التدمير إنما هو في جله من صنع أيدينا على الرغم من إدراكنا أن مثل هذا التدمير هو من سيقود إلى نسف كل مقومات الوحدة الوطنية وتمزيق النسيج الاجتماعي في الدولة الواحدة ويقسم الشعب الواحد إلى أطراف متناحرة في شكل مجموعات مسلحة متنافرة ومتقاتلة وأنه الذي سيفضي إلى يمن جديد لن تقوم له قائمة.
علي ناجي الرعوي
وطن مختطف..وشعب مستباح!! 2506