لا يحضر في الواجهة الدموية لليمن أكثر من السلاح، مثيرا العديد من الأسئلة عن سر هذا التكدس الكبير للسلاح في بلد أخفق في تحقيق الحد الأدنى من طموحه في التنمية والنهوض الاقتصادي، وبقي البلد الوحيد الأقل نموا.
وهذا يكفي لإدانة فترة حكم المخلوع صالح الذي تبجح ذات مرة -وهو الذي لم تعد له أي صفة رسمية- بأن لديه كمية كبيرة من السلاح، لم تتمكن من تدميرها طائرات التحالف العربي.
هذا اليوم "أمس"، ستبث قناة الجزيرة فيلما وثائقيا بمنهجية استقصائية عن السلاح المنهوب، وهو السلاح الذي تحول طيلة العامين الماضيين من درع لحماية الوطن، إلى حمم مصبوبة على رؤوس اليمنيين ومساكنهم ومزارعهم، وبنيتهم التحتية، وذلك بالتزامن مع تسرب معلومات بشأن تفاصيل اتفاق تفاهمت عليه الرباعية في اجتماعها الأخير في الرياض، يقضي بالتوجه نحو نزع السلاح في اليمن.
ثمة حقيقة مرة، تفيد بأن معظم الدمار الذي وقع أثناء الحرب الأهلية الناشئة عن انقلاب الحوثيين والمخلوع صالح، منذ أوائل عام 2014 وحتى اليوم، حدث بالسلاح الذي كان جزءا من عتاد الجيش اليمني وقواته الأمنية.
لا يقضي سكان تعز يوما هادئا، أو ليلة ساكنة، بفعل القصف العشوائي المتواصل الذي يطال أحياءهم، وكله يتم باستخدام السلاح الذي تم شراؤه بأموال دافعي الضرائب، التي أتى جزء كبير منها من محافظة تعز.
من أهم مظاهر سقوط صنعاء، أو التواطؤ على إسقاطها في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، نهب السلاح الذي جرى بشكل استعراضي، حيث شاهد اليمنيون والعالم الدبابات والمدرعات وهي تتجه صوب صعدة، لتستقر في عهدة المليشيا الطائفية، التي عهدت إليها مهمة إسقاط صنعاء، ومعها الدولة اليمنية ونظامها الانتقالي.
العمل الوثائقي للجزيرة، سيكشف عن جانب مهم من عملية النهب الكبير لسلاح الدولة اليمنية، وسيعيد إلى الأذهان تلك الصور التي أثارت الشعور بالإحباط لدى معظم اليمنيين الذين آمنوا بالدولة، واستوطن الأمل في نفوسهم منذ اللحظة التي سلم فيها المخلوع صالح السلطة مرغما إثر ثورة شعبية سلمية.
وأقول سلمية رغم التضحيات الجسام، لأن الثوار اختاروا أن تكون ثورتهم بيضاء، ومع ذلك تحملوا كل الرصاص الذي أطلقه جيش المخلوع صالح وقواته الأمنية على المتظاهرين العزل، على مدى عام كامل، وها هم اليوم يواجهون السلاح ذاته من المصدر ذاته، مع فارق أن المخلوع صالح لم يعد رئيسا.
والسؤال، كيف تمكن المخلوع صالح من توظيف الترسانة الكبيرة من السلاح الذي تمت مراكمتها خلال العقود الخمسة من عمر النظام الجمهوري، في إذكاء هذه الحرب الأهلية الطاحنة، التي لا تزال مستمرة حتى اليوم؟
والإجابة عن سؤال كهذا، تكمن في التركيبة الجهوية والطائفية للجيش والأمن في اليمن، التي تكرست بشكل سافر في عهد المخلوع صالح، على نحو يصح معه توصيف أحد الكتاب اليمنيين، الذي رأى أن الظاهرة الزيدوية (نسبة إلى المذهب الزيدي) تفاقمت في عهد المخلوع صالح بشكل كبير، وهي التي تقف خلف الحلف الذي أقامه صالح مع الحوثيين، على الرغم من الطبيعة المتناقضة لأهداف الطرفين، وظاهرة مثل هذه لم تكرس إلا بفعل تكدس السلاح بيد طائفة واحدة، وجهة جغرافية واحدة.
الحديث عن السلاح يكتسب أهميته في هذه المرحلة، بعد المعلومات التي تداولتها الأوساط المرتبطة بحلف الانقلاب، وتحدثت عن اتفاق ناقشته الرباعية في اجتماعها الذي عقدته الأحد الماضي في الرياض، يقضي -وفقا لهذه المعلومات- بأن تكون دولة ما بعد الحرب في اليمن منزوعة السلاح، وبأن تجري انسحابات لحرس الحدود اليمني، مسافة 30 كيلومترا، بعيدا عن الحدود مع المملكة، ومسافة مشابهة عن مضيق باب المندب.
لا يمكن التحقق من صحة معلومات كهذه، وبالتأكيد إن كانت الرباعية قد ناقشت اتفاقا مثل هذا، فلن يكون بهذه التفاصيل، التي لا يمكن القبول ببعضها مطلقا.
ومع ذلك، يمكن القول إن هذه المعلومات بغض النظر عن مصداقيتها من عدمه، قد أحيت التوجه الذي أحبذه أنا شخصيا، وهو أن اليمن بقدر ما يحتاج بشكل ملح وعاجل إلى أن يتخلص تماما من أي وجود مليشياوي مسلح، فإنه لا يحتاج خلال المرحلة المقبلة إلى أن ينفق موارده من أجل بناء جيش بجاهزية دفاعية عالية.
غير أنه ينبغي أن يأتي هذا التوجه ضمن حزمة متكاملة من الإجراءات السياسية والاقتصادية والأمنية.
فاليابان وألمانيا -والمثل هنا ليس للمقارنة بل للاستشهاد- عندما فرض عليهما المنتصرون في الحرب الثانية اتفاقا مذلا قضى على نزعتهما الحربية التوسعية وجردهما من السلاح، اقترن ذلك بخطة تأهيل شاملة للبلدين ولاقتصاديهما، أعادهما إلى صدارة الاقتصاد العالمي.
واليوم لا توجد عوائق تحد من رغبة اليابان وألمانيا في التسلح، وحتى في المشاركة في مهام عسكرية خارجية، في أماكن النزاع في العالم.
في اليمن، لا أعتقد بأن الحرب ستنتهي إلى هزيمة البلد، هذا غير وارد، بدليل أن الجيش الذي يحارب الانقلابيين هو الجيش الوطني الذي ينتمي إلى كل مناطق اليمن، وإنما ستنتهي إلى هزيمة المشروعات الأحادية التفكيكية الطائفية، وستعيد الدولة وتعيد معها اليمن إلى خط الانتقال السياسي نحو الدولة الاتحادية.
وهذه الدولة يجب أن تقوم على ثنائية التنمية والممارسة الديمقراطية، والتنمية تحتاج إلى مساعدة دول مجلس التعاون في إدماج الاقتصاد اليمني واعتماد سياسة الحدود المفتوحة للبضائع والبشر.
والديمقراطية تحتاج أيضا إلى أن تؤمن دول مجلس التعاون، بأن استقرار اليمن لن يأتي عبر إعادة إنتاج نظام شمولي، بل عبر ترسيخ نظام ديمقراطي تعددي.
لكن ماذا عن السلاح؟ في الحقيقة، اليمن يحتاج إلى ترسيخ قوة القانون في إطار الدولة الاتحادية الديمقراطية، وهذا القانون يحتاج إلى أجهزة أمنية، وإلى وحدات عسكرية، وإلى خفر سواحل بتسليح يضمن بقاء البلد مستقرا.
أما حماية البلاد من التهديدات، فإن ذلك يتحقق من خلال وحدة الشعب وإيمانه بدولته، وبإرادته الكاملة والمنسجمة للدفاع عن خياراته، ويمكن لمعاهدة دفاعية تجمع اليمن مع جيرانه أن توفر سندا قويا في مرحلة البناء والتنمية.
وحينما يشعر الشعب اليمني أنه قد وصل إلى أهدافه التنموية على قاعدة الممارسة الديمقراطية الكاملة، فإن بوسعه أن يقرر في أي لحظة تاريخية يمكن أن يوجه جزءا كبيرا من موارده في بناء قوة عسكرية لحماية مكتسباته التنموية والديمقراطية، وهو أمر قد لا تكون هناك حاجة له في المدى المنظور، وإن حدث، فإنه سيتم في ظل علاقات اندماج سياسي بين المكونات الإقليمية لشبه الجزيرة العربية والخليج، وهذا غاية ما نتطلع إليه.