من طبيعة حركة التاريخ وحركة المجتمع في النماء هو تعزيز صعود طبقة الأكفاء والتكنوقراط في العمل الحكومي لإدارة الدولة وفق المناهج العلمية والإصلاحية، بعيداً عن الاحتراب السياسي والمزايدات الحزبية والمذهبية والطائفية والعنصرية، نحن البلد الوحيد في هذا الكون الذي يفتقد لهذه الحركة، ولهذا مشاريعنا تحبط ومستقبلنا يسوء وأزماتنا تتراكم.
نحن في اليمن ضحية صعود المتسلقين الانتهازيين النفعيين الذين لهم خصال فرعونية إلى أعلى المناصب للسلطة بسبب احتيالهم ومكرهم وكيدهم وجرائمهم وخططهم، يحاربون النخب الاجتماعية وأدوات التنمية السياسية، لفسح المجال لأدوات الفرعنة والفوضى والعبث بأدوات لا تستقيم والدولة التي نريد، الضامنة للمواطنة، يرفضون التنافس الشريف والشرعي والأخلاقي، ليفرضوا ما يريدون بوسائل الفرض كالعنف أو الحشد أو التهديد وإثارة الفوضى العارمة بهتافات دون ميزان ومقياس ديمقراطي حقيقي للإرادة الجماهيرية التي تحكمها صناديق الاقتراع، المطلوب اليوم فسح المجال للوصول إليها.
اليوم.. هناك من يرفض الحديث عن الدولة الضامنة للمواطنة، والشراكة السياسية لوطن يستوعب الكل إسلاميين وقوميين وشيوعيين وليبراليين، وكل أطياف المجتمع ليشكّل تنوعاً جميلاً للقوى السياسية للأمة ومشروعها الوطني، تلبية لمتطلبات المجتمع الثائر، تنسجم مع إرضاء الناس وفق قاسم مشترك يجمعهم فكرياً وثقافياً بعد صراع محتدم على مدار عقود طويلة من أجل جملة من المبادئ العامة، أهمها الاستقلال الوطني، والوحدة والحرية، والعدالة والتنمية، والابتعاد عن الاختلاف الأيدلوجي المتعلق بالهوية والرؤية الخاصة الحائل دون تفاهم بشأن حد أدنى من الاتفاق على قواسم مشتركة في ظل تمسك كل طرف بأولوياته واعتقاده بأنه يملك الحقيقة المطلقة.
هناك من يجاهر عن قناعاته في دولة تخصه ترفض الآخر، بل تعتبره مشكلة وهي الحل، لتعمق المشكلة وتضع نفسها عائقا أمام بناء الدولة المدنية التي نريدها، تلك الدولة التي تحافظ على كل أعضاء مجتمعها،دون النظر إلى انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو الفكرية،ولها شروط لا تكتمل بغياب أي منها وأهمها: أن تقوم على السلام وليس على الاستسلام،وعلى التسامح لا على الانتقام،والمساواة في الحقوق والواجبات، لا أن تكون مستبدة قاهرة طاردة لأبنائها، تحرمهم من حقوقهم وتنظر إليهم فقط كمصادر للجباية، وألا تكون متوغلة على المعارضين وأصحاب الأفكار المختلفة، فتقع بالظلم لتفرض نفسها وصية على الجميع، تفقد الدولة ضمانتها للمواطنة والحرية ويضيق الوطن بأبنائه.
هؤلاء هم مشكلتنا التي تعيق الولوج للمستقبل، وجدوا أنفسهم في مواقع لا يحلمون بها، أغرتهم السلطة والإعلام، وكم من المنافقين والمطبلين، وهم لا يعون معنى السياسة ولا الدور الريادي والوطني والتضحية لخدمة الأمة والوطن، غباؤهم ونقص المعرفة واضح بتصريحاتهم، التي تؤجج وتثير النعرات، وتقضي على أدوات المستقبل لتستدعي معاول الدمار والخراب، يستدعون القبيلة والعشيرة والأعراق والسلالات والمكونات المبنية على ذلك ويرفضون الأحزاب والمكونات السياسية التي لها تاريخ عريق في الحركة الوطنية اليوم يأتي أحد الأغبياء ليرفض وجودهم ببديل غير وطني وبعذر أقبح من ذنب، ليتحدث عن مكون سلالي وعرقي وجماعات منفلتة ومليشيات لا لها برنامج ولا تحكمها وثائق وأدبيات، وما هو سيئ هو الحشد القبلي لتشريع ذلك.
الصورة ذاتها تتكرر في أزماتنا شمالاً وجنوباً، بغياب واضح للعقول السياسية والأكاديمية والتجارب الغنية على مر العصور والأزمان، لهذا نحن نسير بوتيرة عالية للخلف ولمزيد من التناحر والصراعات، متى سنعي مصالحنا ونوقف هذا العبث المعيق للمستقبل المنشود، وتخطو خطواتنا بأدوات البناء لا الهدم.