جذبت ثورة «23 يوليو 1952» الأحرار إليها من جميع الدول العربية، وكان لأثير «صوت العرب» عظيم الأثر في إنعاش الروح القومية، الهبت شعاراتها حماس الجماهير، لتتجسد على وقعها واحدية النضال اليمني، وكما بدأ أحرار الشمال نضالهم من عدن، بدأ أحرار الجنوب نضالهم من صنعاء، تحت شعار «الاستقلال والوحدة». حددت ثورة «26 سبتمبر 1962» منذ اللحظة الأولى لانطلاقها حقيقة توجهها الوطني كثورة شاملة لا تعترف بالحدود الشطرية، أفصحت عن نهجها الوحدوي ضمن أهدافها الستة، وفي بيانها للشعب اليمني، على اعتبار أنه «شعب واحد يؤمن بالله، وبأنه جزء من الأمة العربية». فرح عارم عم الشعب اليمني من المهرة إلى ميدي، وفي شوارع مدينة عدن خرجت الجماهير مُحتفية بالثورة السبتمبرية، وتوجه المتطوعون الجنوبيون للدفاع عنها، ليقوموا ـ وقبل أن ينتهي ذلك العام ـ بإعادة تنظيم أنفسهم في إطار سياسي يُمثلهم أمام القيادة الشمالية، تحت مسمى «هيئة تحرير الجنوب اليمني المُحتل»، وكان نشاطهم ـ بسبب عدم رضا المصريين ـ محدود. بازدياد العمليات العسكرية ضد الجمهورية الوليدة، بدأ المصريون يفكرون جدياً في إيجاد إطار سياسي يلم شتات الجنوبيين المتواجدين في الشمال، يستطيعون من خلاله تنظيم أنفسهم للقيام بعمليات عسكرية ضد الاحتلال، استغل القوميون العرب ذلك؛ وبدأوا يروجون لأفكار الكفاح المسلح، ويعدون العدة لإنشاء تنظيم مُنبثق عن الحركة الأم، وأجروا اتصالاتهم مع قياداتهم في الخارج للاتصال بالزعيم جمال عبدالناصر للحصول منه على الضوء الأخضر. جاء الضوء الأخضر، وعاد قحطان محمد الشعبي من القاهرة إلى صنعاء، وتمّ تعيينه مستشاراً للرئيس/ عبدالله السلال لشؤون الجنوب بدرجة وزير، وقد استطاع قحطان- خلال فترة وجيزة- أن ينال ثقة الجنوبيين، عقدوا أكثر من اجتماع، وكان أهمها ذلك الذي عقد بدار السعادة «24 فبراير 1963»، وحضره أكثر من «100» جنوبي. من هؤلاء جميعاً تشكلت النواة الأولى لحركة التحرر الجنوبية، اتفقوا على توحيد جميع القوى الوطنية في إطار جبهة مُوحدة، واستقر الرأي على تسميتها باسم «جبهة تحرير الجنوب اليمني المُحتل»، وبرز على صدر ميثاقها شعار «من أجل التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية». حين زارت لجنة تقصي الحقائق المنبثقة عن لجنة تصفية الاستعمار بالأمم المتحدة صنعاء «29 مايو 1963»، نظم الجنوبيون مسيرة حاشدة تحركت من العرضي إلى دار الضيافة حيث تقيم، وسلموها مذكرة تشرح أوضاعهم تحت حكم الاحتلال، وحددوا مطالبهم بالاستقلال. توجهت المظاهرة بعد ذلك إلى منزل الرئيس السلال، سلموه نسخة من المذكرة، وطالبوه بدعم الكفاح المسلح، وفتح مكتب للجبهة، وتعيين قحطان الشعبي رئيساً لمصلحة أبناء الجنوب حتى تكون له صفة رسمية وصلاحيات قانونية، لبى السلال مطالبهم، إلا أن فتح المكتب رفض من قبل بعض القوى الانتهازية. وفي «5 يونيو 1963» صدر في صنعاء بيان جنوبي تاريخي، تمّ توزيعه باسم قطاعي القبائل والجيش، تضمن تصميم قطاع القبائل على الدخول في المعركة في جبهة موحدة مع كل الطلائع والقوى الوطنية المؤمنة بالتحرر الكامل، ورفض أسلوب المساومة وأنصاف الحلول، وقد كان الثائر راجح بن غالب لبوزة من ضمن الموقعين. وفي منتصف ذات الشهر عقد في منزل القاضي عبدالرحمن الإرياني اجتماع ضم عدد من الشخصيات الوطنية، شدد الشماليون فيه على ضرورة فتح جبهة في عمق الأراضي الجنوبية، من أجل تخفيف الضغط على الثورة السبتمبرية، وافق الجنوبيون على ذلك، وعقدوا في اليوم التالي اجتماع قرروا فيه تشكيل لجنة اتصال مهمتها الإعداد والتهيئة للثورة، مكوَّنة من «12» شخصاً، «6» ممثلين لحركة القوميين العرب، و«6» ممثلين لتشكيل القبائل. كانت غالبية التنظيمات السياسية الجنوبية تعتبر في بياناتها اليمن إقليماً واحداً، وجزءاً من الوطن العربي المُوحد، وهي الشعارات التي كانت تؤذي الانجليز وحكومتهم الاتحادية، أصدروا في ذات الشهر قانون صارم موجه لدعاة الوحدة، جاء نصه: «من يوافق أو يدفع الآخرين إلى التفكير بأن اتحاد الجنوب العربي يعتبر جزء من دولة أخرى، يتعرض لعقوبة السجن لمدة لا تزيد عن سبع سنوات، أو لغرامة لا تزيد عن خمسمائة جنيه استرليني». في الأسبوع الأول من «يوليو 1963»، عقد في قرية «حارات» ناحية «الأعبوس ـ تعز» اجتماع تشاوري لعدد من أعضاء حركة القوميين العرب، حضره: قحطان الشعبي، وفيصل عبداللطيف، وسلطان أحمد عمر، وعلي السلامي، وطه مقبل، وسالم زين، وآخرون، وفيه تم الاتفاق على توسيع دائرة التحالفات الجنوبية على قاعدة الكفاح المسلح، وإضافة كلمة القومية لاسم الجبهة. وذكر سلطان أحمد عمر ـ أحد أولئك المجتمعين ـ في مقابلة صحفية، أنَّ قيادة الحركة اتخذت في ذلك الاجتماع عدة خطوات حاسمة، أهمها الإعداد للثورة، واختيار جبال ردفان لتفجيرها، لأسباب ـ عدها ـ استراتيجية، وهذا يعني أن ساعة الصفر حددت مُسبقاً ومن جبال الأعبوس. توجه بعد ذلك عدد من الثوار الجنوبيين إلى مدينة تعز، وشكلوا قيادة لتنظيم التعاون مع المخابرات المصرية للإعداد للثورة، وفتحوا مكتباً لها، ونشروا «الميثاق القومي» و«بيان مارس» كما أقر، ولم يغير فيه سوى اسم جبهة التحرير إلى «الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل»، وتم إعادة نشرهما في صحيفة الثورة التي كانت تصدر من ذات المدينة. تبعاً لذلك، عقد في مدينة تعز اجتماع كبير ظم غالبية ثوار الجنوب الفاعلين «19 أغسطس 1963»، أخذت الجبهة فيه تسميتها الجديدة، واندمجت فيها وتبنت خيارها سبعة تنظيمات سرية، هي: «حركة القوميين العرب، والجبهة الناصرية في الجنوب المحتل، والمنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل، والجبهة الوطنية، والتشكيل السري للضباط والجنود والأحرار، وجبهة الإصلاح اليافعية»، والتحقت بها ثلاثة تنظيمات أخرى، هي: «منظمة الطلائع الثورية بعدن، ومنظمة شباب المهرة، والمنظمة الثورية لشباب جنوب اليمن المحتل». واجهت الجبهة حينها ضغوطات كبيرة لإفشالها، وذلك من بعض ضباط الجيش في صنعاء، وشخصيات من حزب البعث العربي الاشتراكي، وكان اللواء حسن العمري أبرزهم، وهي حقيقة أكدها المناضل محمد علي الأسودي في مذكراته. عُقد اجتماع تعز الموسع بالتزامن مع عودة الشيخ راجح لبوزة وأصحابه إلى ردفان، وأثناء مرورهم بمدينة إب التقاهم المقدم أحمد الكبسي قائد اللواء، وصديق لبوزة، ورفيق نضاله في جبال المحابشة، طلب منه دراسة الأجواء في ردفان للقيام بالثورة، وأكد له استعداده لدعمهم، وتدريب كوادرهم، وهو ما كان. صحيح أنّ يوم «14 أكتوبر 1963» لم يكن يوماً قد حدد مسبقاً، إلا أن تفجير الثورة كان قد تم الاتفاق عليه، هذا ما أكده المناضل ناصر السقاف، الذي كان حينها نائباً لقحطان الشعبي، بقوله: «عاد راجح بن غالب لبوزة من الجبهة ـ جبهات الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر ـ ومعه 100 مقاتل، وقد سمع بقانون حكومة الاتحاد، وبعد التشاور مع القيادة والحكومة من شماليين وجنوبيين أعلن أنّه سيعود وسيقاوم إذا تطلب الأمر ذلك، أخذنا وعد لبوزة بعين الاعتبار، المهم عاد الرجال إلى ردفان، وطالبوهم بتسليم السلاح، فرفضوا، فنشب القتال». في اليوم الثاني لاستشهاد لبوزة «15 أكتوبر 1963»، قام المناضل صالح الغزالي بتحرير رسالة إلى المقدم أحمد الكبسي، أبلغه فيها نبأ استشهاد صديقه، وما تعرضت له قبائل ردفان من اعتداء بريطاني غاشم، وطلب منه إبلاغ قحطان الشعبي وقيادة الجمهورية في صنعاء بذلك. إمكانيات ثوار ردفان كانت حينها ضئيلة جداً، ولذات السبب توجهت مجموعة منهم برئاسة القائد بليل راجح لبوزة إلى إب وتعز ثم صنعاء طلباً للدعم والمساندة، وكان أول دعم يتلقونه عبارة عن ذخائر وألغام، وقد تم نقلها إلى مقرهم على الاكتاف، عمل «بليل» بعد ذلك على إكمال مهمة أبيه، نجح في لم شمل القبائل المُتصارعة، بمساعدة مائزة من بعض المشايخ، وصار أبناء ردفان - في مواجهة الانجليز وأذنابهم - يدا واحدة. زار الزعيم/ جمال عبد الناصر اليمن «إبريل 1964»، وألقى من مدينة تعز خطاباً حماسياً، عُدَّ نقطة تحول فارقة في تاريخنا المعاصر؛ بل كان الشرارة التي أشعلت حرب التحرير الشاملة، انطلقت بموجبه عملية «صلاح الدين» الذائعة الصيت، وكانت تعز مقرها، وقد شكلت ذات المدينة وقرينتها قعطبة ملاذاً آمناً للثوار، كانتا محطة تجمعهم، ومركز دعمهم، ونقطة انطلاقهم حتى تحقق الاستقلال.
بلال الطيب
كما بدأ أحرار الشمال نضالهم من عدن، بدأ أحرار الجنوب نضالهم من صنعاء، تحت شعار:الاستقلال والوحدة 1122