واقعنا البائس الذي نشكو منه اليوم هو نتيجة طبيعية للعنف الذي فجّر حرباً، وجعل أرضنا خصبة لإنبات مكونات طارئة مشوهة، تسيطر على المشهد، وتفرز فيه ثقافتها وأفكارها ونزعاتها العفنة. ويبقى العنف هو وسيلة القوى التقليدية المتخلفة، وسيلة النافذين وأصحاب المصالح، والقوى المشوهة من تراكمات الماضي ومآسيه، يبقى العنف يفرز مزيداً من العفن، ما لم يجد مواجهة حقيقية من عقول نيرة ونفوس متسامحة وأرواح طموحه في مستقبل مستقر وأمن متعايش متنوع، لحياة سعيدة خالية من المنغصات. إلى متى سنتقاتل؟ سؤال يردده العقل اليوم، وهل يكفي ما أصابنا من صراعات وحروب دمرت حياتنا وجرفت بيئتنا من كل جمال وفسيفساء الحياة الطبيعية. عندما تنظر لحركة الحياة وتشاهد حجم الزحام أمام كلياتنا ومدارسنا ومعاهدنا، تشعر بالفخر أن فرص تأهيل العقل متاحة، وأن الدولة مهتمة بالتنمية البشرية، وتنمية الإنسان والجيل الصاعد المعني بالمستقبل المنشود، وتشعر بالأمل والتفاؤل، أن المجتمع يبنى على أساس العلم والمعرفة التي تصقل العقل ليحق الحق والخير. وفي الواقع تصدمك بعض مخرجات هذه الكليات، تحاورها وتقرأ لها وتسمع أفكارها، فلا تلتمس فيها شيئاً من التأهيل المحترم للإنسان من مواقف واختيارات مشرفة، بل تجده مجرد فهلوي يبحث عن مصالحه ومجرد موظف يسعى لتحسين مصدر دخله ولو بالطرق التي لا تناسب مستواه التعليمي، تتفوق فيه تعصباته المناطقية والعقائدية، فيتحول مجرد أداة للترويج للعنف والتخلف والشطح والتهور والكراهية والعنصرية.. أداة بيد القوى التقليدية المتخلفة، بعقلياتها العسكرية أو القروية التي تشعر بالأفضلية عن الغير، بالتمايز العرقي والمناطقي والطائفي، بقوى قادمه من أغوار الماضي البائس مثخنة بالثارات تتطفل على حاضرنا بصفة سياسي فارغ المعنى، لا يحمل مشروعاً وطنياً ولا إنساني بقدر حرصه على الانتقام، واستدعاء الماضي، وزيادة حجم التراكمات والشروخ الاجتماعية والوطنية والفوضى العارمة التي يعمل من خلالها لتمرير مخططات تدميرية لخدمة أطماع إقليمية ودولية. هؤلاء هم من وأد الثورة، مصالحهم تبني ثقافتهم وأفكارهم، فيساهمون القوى التقليدية المتخلفة والمثخنة بالعصبية والانتقام والعنف لتتصدر المشهد، يفضلونها من مناطقهم وعصبتهم، يجيدون عزف أقذر الألحان بالطبل والمزمار ليصنعوا منهم أبطالاً ومغاوير، قائد معتوه يطاع وصنم يعبد، فترفع له اللافتات التي تحجم الأقزام، وتصنع من التافه زعيماً، وتحصنه من النقد والتقييم، وتبدأ صناعة المستبد الجديد ما يقوله قرآن منّزل وآيات تمجد، وعبر ودروس يجب أن تحشى بالعقول لتكون برنامج عمل، برنامجاً يرسخ العصبية والتخلف والتأزيم ويؤجج الصراعات ويشعل فتيل الفتن والحروب، وإذا بنا في ورطة التخلف والعصبية التي تقودنا للمهلكة تنقلنا من صراع لصراع ومن حرب لحرب ومن كارثة لكارثة، ومن يفكر في التغيير، يفكر في التكلفة التي يحتاجها تغيير معتوه ومتخلف ذاق حلاوة السلطة ونعيم الثروة وأصيب بالغرور في كرسي أكبر من حجمه تحميه مليشيا مسلحة. هذا هو الواقع الرديء برداءة المخرجات والمصلح الضيقة، والمكونات الطارئة التي أوجدتها الحرب، فلا تستغرب من تغييب العقل والمنطق وإقصائهما، بيئة مثلى للتغرير والإشاعات التي تخدم الأطماع، ليسهل لها التبعية والتفريط بالسيادة والإرادة، وهل يمكن أن يسمح العقل الواعي بتبرير التفريط بسيادة الأرض والتبعية لغير الوطن لمجرد أن قوى خارجية استطاعت إقناع عدد من المغفلين أنها تدعم مشروع الحرية والاستقلال وقدمت ضحايا، وهي تبسط على الأراضي والمؤسسات الحيوية ومصادر الثروة والإيراد، وتحرم نصف أبناء البلد من أراضيهم لإرضاء غرور النصف الآخر، وتحقن المجتمع والوطن بالصراعات والفتن ما ظهر منها وما بطن، وعن حرية واستقلال يتحدث هؤلاء وهم لا يحترمون وطناً إنساناً فيه، هدفهم ليبقى وطناً منهكاً بحرب يأكل أبناءه، ويلتهم كل عقل يصحو لينتفض على واقعه المخزي.. هذا ويقول كفى حرب، حافظوا على الوطن وسيادته وإرادته، لنكون أمة محترمة بين الأمم.
أحمد ناصر حميدان
إلى متى سنتقاتل؟! 1240