تكاد مفاوضات جدة غير المباشرة أن تتحول إلى ساحة مواجهة سياسية ودبلوماسية موازية بين التحالف السعودي الإماراتي من جهة والسلطة الشرعية من جهة أخرى، في ظل هذا التحشيد الكبير الذي تقوم به الرياض لإدراج ما بات يعرف بـ: "حوار جدة" مساراً تفاوضياً ومرجعية دولية جديدة للحل، وضمان التأييد الدولي اللازم لهذا المسار. وفي إطار تنسيق يدل على الأهداف الحقيقية للتدخل العسكري السعودي الإماراتي في اليمن، والتي تبلورت على يد أسوأ المتحكمين بالقرار في هذين البلدين: محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، حرص البلدان على أن تذهب السلطة الشرعية إلى حوار جدة مجردةً من حضورها الرمزي في العاصمة السياسية المؤقتة عدن، بعد أن غادرت صنعاء إثر ترتيب مماثل قام به أيضاً هذان البلدان وسهلا من خلاله دخول الحوثيين إلى صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014.
تلجأ السلطة الشرعية إلى التصعيد في وجه المجلس الانتقالي وأنصاره ومعهما الإمارات للتعبير عن انزعاجها من الأجندة الخطيرة لحوار جدة، وتتمسك بشكل قوي جداً بشرطها القاضي بإنهاء انقلاب العاشر من أغسطس/ آب وانسحاب الانقلابيين من المواقع التي سيطروا عليها إبان ذلك الانقلاب الذي توفرت له كافة أشكال الدعم العسكري من الإمارات فيما تولت السعودية تأمين الخروج الآمن لمن تبقى من رموز الشرعية من عدن، مقترناً بدعوة للمشاركة في حوار جدة للوقوف على تلك التطورات.
ووفقاً لما رُشّح عن مصادر مطلعة، فإن أحدث المقترحات التي تبلغتها الحكومة الشرعية، هي تعيين وزراء من المجلس الانتقالي في الحكومة. لكن هذا المقترح رفض بشدة من قبل الرئيس هادي، وهو ما يفسر الهجوم الشرس والممنهج الذي يتعرض له الرئيس من قبل معسكر الانتقالي الذي يخضع لتوجيهات مباشرة من غرفة عمليات في أبوظبي.
كانت خطة الانفصاليين إبان تحركهم العسكري ضد السلطة الشرعية في عدن تقضي بتحييد الرئيس هادي، تماماً كما فعل الحوثيون، والذريعة هي مواجهة ما يسمى فساد السلطة الشرعية، وصولاً إلى تحقيق أهداف السيطرة الكاملة على مدينة عدن ومعها بقية المحافظات الجنوبية ومن ثم التعاطي مع تحدي وجود الرئيس عبر مسار تفوضي، يتولى تثبيت المكاسب الميدانية، وتقاسم شرعية الوجود مع ما تبقى من السلطة الشرعية.
هذه المرة يبدو أن السلطة الشرعية متيقظة تماماً للمخطط الذي لا هدف له سوى صياغة اتفاق مرجعي، تصبح معه التحركات القادمة للانتقالي بكافة مستوياتها بما فيها العسكرية مبررة وتستند إلى حق ثابت في طرح موضوع الانفصال من طرف مكافئ للشرعية في المشروعية والأحقية في تمثيل المحافظات الجنوبية.
التفويض المفتوح للرياض بشأن "مفاوضات جدة" والذي عبر عنه وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي أنور قرقاش في تغريدة له عبر تويتر، يشير بصورة أو بأخرى إلى حاجة الإمارات كما هي حاجة الرياض إلى إنجاز هذا الاتفاق، الذي ستضع على إثره أبوظبي كافة إمكانياتها العسكرية تحت تصرف المجلس الانتقالي، باعتباره طرف يقاتل على ساحة محددة المعالم تنتهي إلى استعادة الدولة الجنوبية المزعومة.
لا أحد فضح أجندة حوار جدة أكثر من السفير البريطاني لدى اليمن مايكل آرون، الذي لخص المعادلة التي تسعى الرياض إلى تثبيتها عبر هذا المسار، وهي: أن الانتقالي يحتاج إلى اتفاق جدة إذا أراد اعترافاً من المجتمع الدولي، والحكومة الشرعية تحتاج إلى الاتفاق إذا أرادت العودة إلى عدن، والسعودية والإمارات يحتاجان إلى هذا الاتفاق دون أن يوضح لماذا اتفاق كهذا مهم للدولتين. لكن من الواضح أن هاتان الدولتان لا تستطيعان بالوضعية الحالية أن تعيدا فرض تقسيم اليمن بما يتفق مع حدود ما قبل 22 مايو/أيار 1990، لذا تركا هذه المهمة لليمنيين أنفسهم، عبر حوار جدة. على أن طموح هذان البلدان لا يتوقف عند حدود الدولة الجنوبية القديمة، فخطوة كهذه ليست إلا مقدمة لمخطط تقسيم هو الذي سوف يضمن نفوذا لا حدود له جغرافيا بكر وموارد يراد لها أن تعوض المغامرة المهلكة التي قادات هاتين البلدين على الحرب في اليمن بالطريقة الكارثية التي نراها اليوم.
لم يعد رئيس ما يسمى المجلس الانتقالي الجنوبي يبدي حساسية لوجوده المفتوح في جدة، والذي مضى عليه حتى الآن شهر كامل، فالتعليمات التي تأتيه من أبوظبي تلزمه على ما يبدو بالصبر على مكاره الانعزال في مدينة هامش التحرك فيها محدود، في وقت لا تغيب عنه المقارنة القسرية مع الوضعية التي يراوح فيها هادي في الرياض منذ أعوام. فالإمارات تحتاج إلى اتفاق جدة أكثر من أي طرف آخر وهي تعيش حافة الخروج من اليمن مطرودة من الغالبية العظمى من اليمنيين، لذا ترى في اتفاق كهذا طوق نجاة لمشروعها الذي لم ينحسر بعد، رغم المآلات السيئة لاندفاعها القوي والأرعن نحو فرض خيار التقسيم على اليمنيين والاستهداف المباشر للشرعية وجيشها.
*مقال خاص بالخبر بوست.