تزخر الحرب الدائرة حالياً في اليمن بالعديد من المفارقات، إحدى أهم تلك المفارقات أن السلطة الشرعية تتعرض لتهديد وجودي من قبل التحالف الذي جاء لدعمها وإعادة تمكينها من إدارة البلد؛ بعد انقلاب الحوثيين وصالح على النظام الانتقالي الديمقراطي في خريف 2014 بدعم مكشوف من السعودية والإمارات.
وفي ظل هذه الوضعية الجديدة والمثيرة للدهشة، تحول المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات منذ إنشائه في أيار/ مايو 2017؛ إلى مصدر تهديد يفوق في خطورته التهديد الذي يمثله الحوثيون.
ويعود ذلك إلى أن مليشيا هذا المجلس خاضت حربين؛ أحدهما اندلعت في آب/ أغسطس الماضي وانتهت بانقلاب كامل على السلطة الشرعية في العاشر من الشهر نفسه، تسبب في طرد السلطة الشرعية من عاصمتها المؤقتة، على نحو أظهر للعالم طبيعة النهج العبثي الذي يُمارَس من قبل أطراف في معسكر الشرعية يدعمها التحالف.
ونهج كهذا يظهر معه الحوثيون أمام العالم كجهة مسؤولة ومنضبطة للغاية، وصاحبة هدف سياسي واضح؛ قياساً بمعسكر الشرعية الذي تحول إلى خنادق متقابلة في مواجهة عبثية لا أفق لها.
عبر سنوات الحرب الأربع ونيف؛ التي تدور على الساحة اليمنية، تجلت مفارقة أخرى تمثلت في تآكل التحالف الذي بدأ بعشر دول عربية بقيادة السعودية على الساحة اليمنية، وانتهى اليوم إلى دولة واحدة تعاني كثيراً من تأثيرات بقايا الوجود العسكري الإماراتي الذي تحوّل إلى مصدر إزعاج ميداني للمملكة في اليمن.
فقد خسرت الرياض طيلة المدة المنقضية من هذه الحرب، العديد من التحالفات والصداقات، إذ لم يقتصر الأمر على المواجهة المفتعلة التي أفقدتها فرصة بناء تحالف حقيقي مع جارتها قطر، بل تطورت لتنال من الكيان العتيد لمجلس التعاون الخليجي الذي تأسس عام 1981، وهو اليوم مهدد بالانفراط رغم المحاولات المستميتة لإنقاذه من القيادة الرشيدة لدولة الكويت.
وعلى خلفية هذه الحرب، وجدت السعودية نفسها لأول مرة، أمام حقيقة الاستهداف غير المسبوق لعلاقاتها الاستراتيجية طويلة الأمد التي أقامتها مع الولايات المتحدة منذ أربعينيات القرن المنصرم، إثر اكتشاف النفط في المملكة والذي تحولت معه إلى أهم وأكبر منتج ومصدر للذهب الأسود في العالم.
هذا الاستهداف جاء في سياق صراع يخوضه الحزب الديمقراطي مع إدارة الرئيس ترامب؛ الذي اختار مقايضة موقفه الداعم للرياض بمليارات الدولارات التي تقدمها المملكة نظير شراء مستلزمات عسكرية لحربها الدائرة في اليمن.
النهج المفضوح للإدارة الأميركية في عهد ترامب أفقد المؤسسة الأميركية فرصة ممارسة سياساتها التقليدية التي تقوم على مبدأ التحكم بالأحداث وتقنين التعاون ومبيعات الأسلحة، مما يبقي الحلفاء على الدوام رهن الإشارة الأميركية، بدلاً من هذا التأثير الذي يمارسه الحلفاء على السياسة الداخلية الأميركية ذاتها كما يحدث اليوم.
كانت السعودية قد حرصت على أن تحول تدخلها العسكري في اليمن إلى مناسبة لبناء تحالفات واسعة على المستويين العربي والإسلامي؛ تكرس زعامتها في هذين الفضاءين الكبيرين.
لكن التحولات الدراماتيكية داخل الأسرة الحاكمة السعودية، التي قادت الأمير محمد بن سلمان إلى منصب ولاية العهد، أوقعتها في شراك أولويات خطيرة للغاية أهمها الانصراف نحو بناء تحالف إقليمي يُعنَى بالمصالح الإسرائيلية ويوفر غطاء لصفقة القرن.
كل ذلك مقابل ضمان انتقال سلس للسلطة في الرياض من الملك الابن والأخ إلى الملك الحفيد، وهو في هذه الحالة الأمير محمد بن سلمان، متجاوزاً خطاً طويلا من مستحقي منصب ولاية العهد من أحفاد الملك عبد العزيز.
تكاد السعودية اليوم أن تُنهِي عقوداً من الحضور البروتوكولي لمنظمة التعاون الإسلامي، مع فقدانها الوشيك لنفوذ طويل مارسته على هذه المنظمة التي تتخذ من مدينة جدة مقراً لها.
ويعود السبب إلى أن المملكة لم تتردد في ربط دول المنظمة بإرادة الرئيس ترامب في ما يتعلق بأخطر قضية جامعة للأمة، وهي القضية الفلسطينية، وقد رأينا كيف تعمدت خفض مستوى تمثيلها في مؤتمري القمة الاعتيادي والاستثنائي اللذين استضافتهما مدينة إسطنبول التركية في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2017، وأيار/ مايو 2018 على التوالي، وكرسا لمناقشة موضوع القدس، وذلك خلال رئاسة تركيا الدورية للمنظمة.
محاولة تصغير الجامعة التي تمثلها منظمة التعاون الإسلامي دفع ببلدان رئيسية في المنظمة، مثل تركيا وماليزيا وباكستان وإندونيسيا، بالإضافة إلى دولة قطر، إلى التفكير من خارج البنى الهيكلية الميتة للمنظمة في محاولة لإحياء دور الأمة واستثمار طاقاتها في تأكيد حضورها الدولي، وضمان الإنصاف لقضاياها، وفي مقدمتها فلسطين، إلى جانب أولوية التعاون وتحقيق الازدهار لشعوب الدول الإسلامية.
بعد التطور اللافت في العلاقات بين الرياض وأنقرة، نالت تركيا نصيباً كبيراً من الاستهداف السعودي، منذ أن وصل الأمير محمد بن سلمان إلى منصبه الحالي، واتحدت أجندته مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، مع أن تركيا بقيت ملتزمة إلى حد كبير بدعمها للشرعية ولأجندة الحرب، ما دامت هذه الحرب تستهدف بالفعل إنهاء الانقلاب وإعادة الشرعية، وتمكين اليمنيين من إعادة إطلاق عملية سياسية تعيد الاستقرار والسلام والازدهار إلى بلدهم.
أما أحدث المفارقات التي تنتجها الحرب السعودية الإماراتية في اليمن، بصفتها حربا بلا أهداف واضحة ولا أفق، فتكشف عنها مؤشراتُ المواجهة الحالية بين السلطة الشرعية وأبو ظبي، والتي يبدو أن تتم تحت أنظار السعودية المنزعجة بالتأكيد من هذا التعطيل المتعمد لتنفيذ اتفاق الرياض من قبل أبو ظبي وأدواتها، وهو تعطيل يستهدف ما تعتبره السعودية أهم إنجاز لها في اليمن حتى الآن.
وهذا يعني أننا أمام تطور دراماتيكي في العلاقات السعودية الإماراتية، قد تتحول معها الشراكة الظاهرية والمبالغ فيها إلى مواجهة تستجر جزءا من إرث الصراع المرير بين حكام الدولتين طيلة العقود الماضية.