كنت اعتقد ان الموت في اقبية العنف هو اشد رهبة على النفس , وكنت ارى في الحروب العبثية التي يثيرها العنف اكثر اشكال القتل ايلاما على الاطلاق , ويغضبني نفير قوى العنف وهي ترسل شبابنا وقود لحروبها العبثية , حروبا تزيد من حجم ثرواتهم , بينما الناس يزدادون جوعا وحاجة , في مشهد جنائزي لا يفرق بين من يموت في ساحات المعارك او يموت جوعا في منزله متعفف لا يعلم بحاله غير الله , ولكني اكتشفت ان هناك صنف من الموت اشد ايلاما , هو الموت بالوباء , موت يقتل الانسان من الداخل , فيروس وجد مرتعه في اهمال السلطة , في حالة غياب تام للدولة , وتدمير متعمد للمؤسسة , بنرجسية فردية , وشطط حماسي لا يدرك مخاطر الكارثة , ولا يهتم بحجم الموت , والمدينة . في عدن المدينة التي حررها ابنائها الاشاوس , من موت الصواريخ والقاذفات والقناصة , لتدخل في موت الاغتيالات , والترويع للأخر والتهجير , موت اشد قساوة على ايدي جلاوزة مدربة للقتل والترهيب , بتموين من يريد يستبيح كرامة وسلامة المدينة , لتخضع لإرادته , ولازال الموت يداهم عدن , على شكل وباء , مقرون بإهمال ولامبالاة للقائمين عنوه عليها , حتى صارت مدينة الموت والمقابر المفتوحة ليلا ونهار , صارت عدن مشهد جنائزي غير مسبوق , يلاحق ابنائها , كوادرها , شخصياتها , ويختار بعناية اخيارها , في طاحونة الموت الدائرة في عدن , يصرخ الناس مطالبين بتفسير مقنع عن حقيقة ذلك الموت الذي حول مدينتهم لجنازة ومقبرة , وعجز واضح للنجاة من ذلك الموت . موت في ظل عجز سلطة مهما كان تسميتها , سلطة تصارع سلطة لتفرض امر واقع , بمشهد مؤلم بفشل خدمي واداري ومؤسسي , ضحيته المواطن , الذي يفتقد لسبل الحياة الادمية , وعن أي حياة نتحدث لمدينة عرفت الكهرباء مبكرا في العشرينات من القرن الماضي , قبل تعرفها صحاري وبراري الجوار , تعيش اليوم دون كهرباء , وعرفت مبكرا ايضا مشاريع حضرية للمياه وتصريف المخلفات الادمية , اليوم تفتقد لكل ذلك , تحولت احيائها الرائعة لمشهد قروي بدائي و لنقل المياه في احسن الاحوال على ظهور الحمير, واسوى الاحوال على ظهور الاطفال بدبب الزيت , مشهد موجع لمدينة تفقد رونقها الحضري . المبرر السخيف والسمج لكل القوى السياسية التي تأتي على ظهر دبابة , هو الماضي ذات التركة الثقيلة , ويبقى ذلك اللعين يتخذ من تلك التركة عذرا , مكرر لماسينا , معيدا تكرار المشهد السمج للماضي , مقدما مثالا يشبهه كثيرا , وعجزا في تجاوز ذلك الشبه , بل تجاوز التركة نفسها , ومطلوبا منا ان نحتمل هذا الفشل , وبأدوات الفشل نفسه , فلا نجد غير مثال اسوء , و وعود بلا عهود , وعلى الناس ان تصدق , وما اكثر من يصدقون , ويتماهون مع هذا الفشل , فلا حاجة لنا لقوى هشة تعجز في تجاوز تلك التركة وفي وقت قياسي , حيث الوقت مهم عندما يداهمنا الموت , فهل نحتاج ان يموت كثيرا من الناس لكي ينعم هولا بالسلطة والثروة . كثرت احزاننا , وتراكمت اوجاعنا , من فقدان الكثير من الاعزاء والاصدقاء والخلان والاهل موت بالجملة , حتى اصابنا الحزن التراكمي , من الصعب حصر الموتى , وعدد المقابر والقبور , نصاب بالصدمات في مدينة مكلومة وجع والم , مصدره اهمال ولامبالاة , نتيجته الاستشراف الوبائي وتفشي امراض غريبة وعجيبة , تختلف عن ما يجري في العالم , يصفونها بمسميات عدة مكرفس وبالطعون الرئوي , دون ان نجد تفسير علمي وصحي لهذا المرض , واهتمام فعلي وعملي لمحاربته , وانقاذ ما يمكن انقاذه , لا القائمين على عدن , ولا التحالف المعني اليوم بإنقاذ اليمن وعدن المدينة التي اتخذ منها التحالف مقرا لقيادته . الله يرحم موتانا , ويرحمنا , ويصبرنا على ما ابتلانا ,وينجينا من الموت الذي يطارنا والاهمال الواقع علينا , وان لا نقبل ان نبقى مجرد ضحايا في معركة عبثية تدار من وراء الحدود بأدوات الفشل التي تفرض واقعها ومأساتها على المدينة , في مخاض على وشك الانفجار لإنقاذ ما يمكن انقاذه , والبقية لمزبلة التاريخ مع اسلافهم واشباههم الاولين .
أحمد ناصر حميدان
الموت يداهم عدن 1277