أخيراً كشف مكتب الأمين العام للأمم المتحدة عن تفاصيل مسودة الإعلان المشترك لإطلاق النار الجديدة والمعدلة، حتى قبل أن يتلقى من الحكومة أو جماعة الحوثي موافقة ولو مبدئية على هذه المسودة، والتي كان اللافت فيها أنها عوَّمَت الهوية السياسية للجمهورية اليمنية، مستعيضة عنها بالاسم التاريخي للبلاد.
من الواضح أن الكشف عن مضمون المسودة، يشير إلى أن المبعوث الأممي استنفد جهده تقريباً واستوعب ما يريده أكثر الأطراف صلفاً في معادلة الصراع، وهي جماعة الحوثي الانقلابية، إلى جانب أن المبعوث الأممي مرر صيغة تعيد هوية هلامية للجمهورية اليمنية.
تلك الصيغة كانت السعودية قد حاولت فرضها لإنهاء الحرب بين الجمهوريين والملكيين أواخر ستينيات القرن المنصرم، والتي كانت طرفاً أساسيا فيها وداعماً كبيراً للملكيين، وبموجبها طلبت من الجمهوريين إلغاء جمهوريتهم الفتية التي أنتجتها ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962، مقابل تنازل الإماميين عن مطالب استعادة الإمامة المقبورة.
في الصيغة السابقة لمسودة الإعلان المشترك لوقف إطلاق النار، والتي عرضها المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث في 11 نيسان/ أبريل 2020؛ على كل من الحكومة والحوثيين وقبلت بها الحكومة ورفضها الحوثيون، كان النص يتضمن إشارة صريحة لـ"الجمهورية اليمنية"، لكن المسودة الجديدة التي يبدو أنها استوعبت مطالب الحوثيين، تخلت عن الإشارة الصريحة للجمهورية لتكتفي بذكر اليمن أو الأراضي اليمنية.
في تقديري أن ذلك يمثل أخطر ما في هذا الإعلان، وهذا يجب أن لا يغطي على بنود لا تقل خطورة، والتي عززت الموقع السياسي والعسكري والاقتصادي للحوثيين، وفرضتهم شريكاً للسلطة الشرعية الضعيفة في إنفاذ الإجراءات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، كند كامل للسلطة الشرعية. بل إن الحوثيين يقفون على أرضية أكثر صلابة من تلك التي تقف عليها الشرعية، وربما لا تقف أصلاً، بالنظر إلى التحديات الكثيرة التي وضعها التحالف السعودي الإماراتي أمام هذه السلطة.
في الرياض تجري مشاورات متعددة المسارات لحسم الصراع الموازي في جنوب البلاد، وهو حسم يتجه نحو تعزيز المكاسب السياسية والعسكرية والاقتصادية للانفصاليين الذين نفذوا انقلاباً كامل الأركان على السلطة الشرعية في العاصمة السياسية المؤقتة عدن. وهذا يمثل سبباً كافياً للقلق من مسألة تغييب الإشارة إلى الجمهورية اليمنية في مسودة الإعلان المشترك لإطلاق النار؛ لأن تمرير الانفصال يقتضي هدم الهوية السياسية التي تمثلها الجمهورية اليمنية لتبدو مجرد جغرافيا متنازع عليها، وقابلة لإعادة التشكيل الجيوسياسي وفق النزعات والرغبات المتصارعة والأجندات الإقليمية.
لقد قدمت السعودية ومعها الإمارات ما يكفي من الأدلة على أنهما ماضيتان باتجاه طي صفحة الجمهورية اليمنية، والتعامل مع اليمن باعتباره تركة جيوسياسية قابلة لإعادة التشكيل.
والأمر لا يحتاج لأكثر من ممارسة الضغوط على السلطة الشرعية المنعزلة عن شعبها والمتواجدة في الرياض، لكي تقدم التنازلات تلو التنازلات، وتمنح المشروعية للتمردات والإجراءات أحادية الجانب التي أقدم ويقدم عليها الحوثيون، وأقدم ويقدم عليها الانفصاليون المدعومون سياسيا وعسكرياً من الرياض وأبو ظبي.
وعودة إلى مسودة الإعلان المشترك لوقف إطلاق النار، فقد نص على إعادة فتح مطار صنعاء الدولي أمام الرحلات الدولية والتجارية والإنسانية والمدنية، ورفع القيود على دخول سفن الحاويات التجارية والسفن المحملة بالغاز والنفط والمشتقات النفطية، وغيرها من السفن المحملة بالسلع والبضائع، وهو أمر يشكل إحدى أولويات الحوثيين.
وبموجب هذه المسودة، فإن الحوثيين سيكونون شريكاً ونداً للسلطة الشرعية التي تتحكم بها الرياض، في الآلية المشتركة لمراقبة اتفاق وقف إطلاق النار، عبر لجنة تنسيق عسكري برئاسة الأمم المتحدة وعضوية ممثلين عسكريين من الحكومة والحوثيين، يتبعها مركز للعمليات المشتركة، وسيكونون شركاء للحكومة في التصرف بحساب بنكي مشترك يتم فتحه في البنك المركزي اليمني وفروعه لإيداع اللازم من الإيرادات المركزية والسيادية، ولجنة مشتركة لتنسيق السياسات النقدية.
وتقريباً ليس هناك مدة زمنية تقترحها مسودة الإعلان المشترك لوقف إطلاق النار، لانقضاء فترة الشراكة المؤقتة هذه التي تقول المسودة إن الإعلان لن يُحدِثَ تغييراً في الحقوق والمراكز القانونية للطرفين، ولا يؤسس لأي سابقة رسمية. وهذا يعني أن الحوثيين والانقلابيين الجدد في جنوب البلاد سيحصلون على شرعية تأسيس نموذج للحكم قائم على إمكانيات لا تتحكم بها السلطة الشرعية، في وقت لا توجد فيه ضمانات بأن السلطة الشرعية ستعود إلى الوطن أصلاً.
وبقي أن أشير إلى أن مسودة الإعلان المشترك لوقف إطلاق النار فتحت ثغرة لإمكانية تثبيت مكاسب مرحلة وقف إطلاق النار، حيث إنها "لن تغير المركز القانوني لطرفي الإعلان أو تؤسس لسابقة رسمية"، ببند ورد في مسودة الإعلان نص على أن "أي مسائل تتعلق بالترتيبات السياسية والأمنية المستقبلية لليمن تحدد حصراً من خلال العملية المتضمنة في اتفاقية استئناف المشاورات السياسية".
وهذا يعني أن الأطراف المؤثرة في سياسية ومواقف الشرعية لديها ما يكفي من الإمكانيات لإعادة تكييف الموقف الضعيف والمهترئ للسلطة الشرعية، للقبول بما تحقق للانقلابيين والمتمردين عليها من مكاسب سياسية وأمنية واقتصادية.