ما من أحد يرقب الشأن اليمني باهتمام إلا ويدرك حتماً أن التطورات السياسية والعسكرية في هذا البلد فقدت أو كادت أن تفقد زخمها تماماً، وتفرعت إلى ملفات منفصلة، ورعاة متشاكسين، ووكلاء محليين لديهم قابلية للتشكل وفق أجندات الداعمين وأهدافهم التي تنطوي على كثير من الشرور لليمن وشعبه.
وفي خضم هذا الشتات تواصل بريطانيا التي تُمسك بقلم اليمن في مجلس الأمن؛ أداء دور أقل ما يقال عنه إنه انتهازي ومرتهن، ولا يتفق مع كونها عضوا دائما في مجلس الأمن، إلى حد بات معه سفيرها لدى اليمن مايكل آرون مجرد مسوق فاشل لمهمة مواطنه المبعوث الأممي مارتن غريفيث، المثقلة بأسباب الفشل.
ويُعزى ذلك إلى أن غريفيث لا يجترح حلاً يتفق على الأقل مع قرارا مجلس الأمن، بل يتبع سير المعارك والنتائج التي يحرزها المتحاربون ويثبتها كحقائق على الأرض ومن ثم يُعيد تكييف خطة الحل الشامل. لذا لا غرابة أن يظهر السفير آرون هذا القدر من التذمر حيال موقف السلطة الشرعية الرافض للمسودة الأخيرة من الحل الشامل المقدمة من غريفيث، لأنها اشتملت على تجاوزات غير مقبولة من جانب الحكومة، ولأنها تتعدى حدود التفويض الممنوح لغريفيث، ما اضطره إلى إعداد مسودة جديدة من المقرر أن يناقشها غريفيث مع القيادة اليمنية خلال الأسبوع القادم في الرياض.
وهذه المسودة كما يقول السفير البريطاني؛ ستكون نهائية لأن الحرب في اليمن تقترب من نهايتها، دون أن يدعم السفير وجهة نظره المتفائلة بدليل مقبول، في وقت تتعدد مظاهر هذه الحرب وتداعياتها المأساوية، في معارك منفصلة أحدها تدور بين الشرعية والانفصاليين المدعومين من الإمارات والسعودية، والأخرى تدور عند حدود التماس مع الحوثيين والتي باتت تشكل ضغطاً هائلاً على ما تبقى للحكومة الشرعية من وجود على الأرض، وعلى الأخص في مأرب.
السعودية التي تتقيد بالأجندة الإماراتية وتتشاركها بامتياز، اتجهت نحو إعادة توجيه مسار دعمها العسكري لمعسكر الشرعية، من الجيش الوطني الذي تنظر إليه على أنه تجمع عسكري واسع لمنتسبي التجمع اليمني للإصلاح، إلى المطارح، وهي حشود قبلية مسلحة، كمطارح قبيلة دهم في محافظة الجوف، دون أن تمنع الإصلاح من أن يكون شريكاً في هذه المطارح ما دامت تحت المظلة القبلية والمرجعية العشائرية.
وذلك لعمري إعادة استنساخ حرفية لنهج الإمارات الذي كان واضحاً منذ البداية، لجهة بناء تشكيلات تقاتل الحوثيين لكن لا تتعامل مع الشرعية ولا تتوخى أهدافها ومشروعها السياسي، بقدر ما تؤسس لنفوذ ميداني موازي ومتصادم مع وجود الشرعية ونفوذها.
لقد ساهم فقدان التحالف لتأييد المجتمع الدولي لحربه في اليمن، في لجوئه إلى التخفيف الكبير من منسوب المواجهات العسكرية مع الحوثيين، وساهم ذلك على الفور في إعفاء هؤلاء الحوثيين من أعباء المواجهة طويلة الأمد مع أعدائهم، وساعدهم كذلك في تكريس نفوذهم السياسي والعسكري في أهم مناطق التركز السكاني في البلاد.
والأسوأ من ذلك أن ما يمكن وصفه بانتفاء التهديد الوجودي للحوثيين، والذي كان يشكله اقتراب الجيش الوطني من العاصمة صنعاء، قد ساهم إلى حد كبير في خروج قادتهم من دور التقية السياسية، إلى دور الإعلان المباشر والصريح والاستعراضي عن الاستحقاقات الطائفية المعلنة، بدءا من فرض الخُمُس على كل مال يكسبه اليمنيون بكدهم وعرقهم، وانتهاء باحتفالات ذكرى "يوم الغدير" أو "يوم الولاية" الذي يصادف الثامن عشر من شهر ذي الحجة من كل عام، للتذكر بما يرونه وصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم لعلي ابن أبي طالب بالخلافة من بعده.
زخم الاحتفال بهذه المناسبة، جاء نتيجة إجبار اليمنيين على المشاركة فيه، تحت طائلة التهديد بالفصل من الوظائف والتهديد في الأرزاق، لأن الحوثيين يريدونه أكثر من مجرد حشد استعراضي، بل تهيئة ذهنية للخطوة النهائية، وهي إعلان عودة الإمامة الزيدية على وقع الفوضى والدماء والخراب، وهي مقدمات مهدت خلال الأزمنة الماضية لظهور العشرات من الأئمة، بعد غياب أو انحسار الإمامة إلى مستويات دنيا من الضعف.
إن ثقة الحوثيين بأنفسهم هي الدليل الوحيد على التفاؤل الذي يظهره السفير البريطاني حيال نهاية الحرب، التي يبدو أنها ستثبت الحقائق القائمة على الأرض، خصوصاً أن السلطة الشرعية مهددة في وجودها بعد تأسيس حكومة الكفاءات السياسية التي ربما تتحول إلى تركة متنازع عليها.
لا ضمانة حقيقية على أن الرئيس هادي سيتمكن من إصدار القرارات، وهو السلاح الوحيد المتبقي لديه، بعد التنازلات الخطيرة في إطار اتفاق الرياض، الذي وفر غطاء كاملاً للانحسار الخطير لنفوذ الشرعية في جنوب اليمن، جراء سلسلة من الانقلابات والتمردات التي دعمها التحالف السعودي الإماراتي في عدد من المحافظات، وكان آخرها محافظة أرخبيل سقطرى، والتي تلتها موجة تهجير قسري لليمنيين المنحدرين من المحافظات الشمالية للبلاد ولا تزال مستمرة حتى اليوم، يقابلها منع أي من هؤلاء من العودة إلى أرخبيل سقطرى.
وبقي أن ألفت عنايتكم إلى أن الحرب في اليمن لم تعد سوى أحد أسباب المأساة متعددة الأوجه التي يعيشها الشعب اليمني، فمن كورونا في ظل غياب نظام صحي، إلى التراجع في الامدادات الغذائية والإغاثية، إلى الأمطار شبه المدارية الغزيرة والسيول الناجمة عنها والتي تسببت في وفاة أكثر من مئة إنسان وفي تشريد الآلاف من منازلهم، وفي تجريف الزرع والضرع، وهدم المنازل خصوصاً الطينية في أهم مدينتين تاريختين مدرجتين في قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
