لا تكاد المواجهات تتوقف على خطوط التماس التي نشأت منذ منتصف هذا العام في محافظة أبين، بين القوات الحكومية التي تسعى إلى استعادة محافظة أبين والوصول إلى عدن، من جهة، وقوات المجلس الانتقالي التي تستميت في الحفاظ على البقاء في زنجبار ناهيك عن سيطرتها الحالية على العاصمة السياسية المؤقتة عدن.
ويلاحظ أن الجولتين الأخيرتين من المواجهات وخصوصا تلك التي دارت اليوم الجمعة، نجم عنهما سقوط عدد كبير من القتلى ومعظمهم في صفوف القوات التابعة للانتقالي، مع سقوط قتلى ولكن بصورة أقل من جانبا القوات الحكومية.
هناك مؤشرات على الإنهاك الذي أصاب قوات المجلس الانتقالي، لأن الحماس لم يعد كما كان عليه الأمر في السابق، والأمر يرتبط أيضاً بمعادلة القوة والإمكانيات والأسلحة. وتقريبا استخدم الانتقالي كل أسلحته النوعية، مما جعل من فعالياته تبدو أقل بكثير في المواجهات مع القوات الحكومية.
ودعونا ننظر إلى ما يدور في أبين من زاوية مختلفة قليلاً. فالحرب الدائرة هناك، تشير إلى تمسك كل طرف بخياراته العسكرية والسياسية والاستراتيجية، على الرغم من ادعاء الطرفين أنهما يعملان من أجل إنجاح اتفاق الرياض.
فهذا الاتفاق صمم لغايات وأهداف سعودية وإماراتية، وينظر إليه على أنه اتفاق سلم وشراكة جديد، يريد أن يوطن كائناً منبوذا آخر هو هو المجلس الانتقالي كما جرى توطين كيان منبوذ في شمال البلاد وهو ميلشيا الحوثي من خلال اتفاق السلم والشراكة.
يقاتل المجلس الانتقالي لا دفاعاً عن الدولة الجنوبية المزعومة، بل دفاعاً عن المصالح الشخصية التي تكونت لدى قياداته، التي تبدو منفصلة تماماً عن الشعب اليمني في جنوب البلاد.
فمأساة هذا الشعب تزداد وتتفاقم وتزداد وطأة الحرب عليه ومعها غياب الدولة وانحسار الخدمات وتدني المستوى المعيشي، في حين تُطل قيادات المجلس الانتقالي ومنهم العشرات ممن كانوا غير معروفين قبل خمسة أعوام، وعلى محياهم مظاهر النعمة والراحة والانبساط وشيئ من الغرور الذي يستند إلى وهم الدعم المفتوح من جانب السعودية والإمارات.
وفي المقابل يشعر الرئيس هادي والقيادات المحسوبة عليه، بأن الامارات والسعودية، تعمدتا إبقاء محافظة أبين التي ينتمي إليها الرئيس خارج سيطرته، وبأن عدن أصبحت بعيدة المنال بالنسبة لهذا الرئيس والمقربين منه من أبناء محافظته، بل أن أبناء محافظتي أبين وشبوة الذين يتواجدون بحكم الضرورة في مدينة عدن عرضة للانتهاكات المتكررة من جانب الانتقالي ورجاله.
وبالتأكيد لا يحتمل الرئيس هادي بقاء الوضع على ما هو عليه فمحافظة أبين خارج سيطرته، لأن ذلك يمثل أحد مؤشرات ضعفه وتضعضعه وانحسار نفوذه. فيما يستطيع عيدروس الزبيدي الذي يشاطره ذل الإقامة في الرياض الادعاء بأنه يتحكم بمركز محافظة أبين ويحكم سيطرته على محافظة عدن بالكامل مدعوماً من قوات ينتمي معظم أفرادها إلى كل الضالع ويافع وردفان، وهو المثلث الذي سبق له أن كان طرفاً في صراعات دموية جهوية على السلطة مع أبين وشبوة.
وهذا يعني أن القوات التابعة للانتقالي التي تقاتل اليوم في أبين لا تدافع عن الجنوب بل تتكئ على خصومة مناطقية ثأرية متجذرة مع أبين ومع الرئيس هادي، على نحو يظهر الحرب التي تتجدد
بصورة مستمرة في أبين وكأنها استعادة متأخرة للصراعات الدوموية التي دارت ضمن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وكان آخرها حرب 13 يناير/ كانون الثاني 1986.
لقد صممت هذه الجبهة وهذه الحرب، لترسيخ عوامل مستدامة للصراع بين المكونات الجنوبية، وسط هذه الادعاءات المبالغ فيها من جانب الانتقالي عن الكفاح من أجل استعادة الجنوب، ومحاولة الانتقالي الزج بالإصلاح وبمن يسميها “الميلشيا الاخوانية” والشرعية المختطفة، في الجهة المقابلة من الحرب، لإظهار أن المعركة لا تدور بين الجنوبيين بل بين الجنوبيين الشرفاء وحفنة من المرتزقة المغرر بهم والذين فتحوا الطريق للقوات الشمالية لكي تعود لاحتلال الجنوب.
هذا بالتحديد ما تريده السعودية والإمارات، فهذان البلدان الموتوران لن يستطيعا الحصول على ما يريدان في جنوب اليمن إلا من خلال تفكيك البنية الاجتماعية للجنوب وتعميق خطوط الصدع القائمة منذ سنوات بين المكونات الجهوية الجنوبية.
إنها وصفة خبيثة أفسحت المجال للسعودية لكي تحتل المهرة وعدن وسقطرى، وللإمارات لكي تمضي في مخطط الاستئثار أو الاستحواذ على محافظة أرخبيل سقطرى، وسط تصفيق حار وتخادم من جانب يافع والضالع وردفان.
فيما تبقى مدينة عدن وميناؤها منكوبتين بالمجلس الانتقالي وسياساته المتوترة وقواته المرتهنة لإرادة قوى قررت أن تقتل كل الشرفاء اليمنيين في عدن دون هوادة، عبر الانتقالي وميلشياته لأن الامارات لا تريد ميناء مزدهراً في المنطقة، وتريد السيطرة على مضيق باب المندب وسقطرى، ولا تريد السعودية دولة يمنية قوية في جنوب الجزيرة العربية.