ها هي حكومة الكفاءات السياسية اليمنية ترى النور بعد تعثر دام أكثر من عام، لتبدو إنجازاً يندرج ضمن الأولويات السعودية المحضة، وتمكيناً إضافياً للإنفصاليين المدعومين من الإمارات ومن السعودية كذلك، والذين يحلو لهم أن يصفوها بـ"حكومة المناصفة"، ليظهروا أن ما تحقق ليس سوى مكسب مرحلي على طريق الانفصال، وليس تنفيذاً لأحد أهم مخرجات الحوار الوطني الشامل.
كل شيء يدعو إلى الاستغراب في ما يخص المحطات التي مر بها اتفاق الرياض، فمحطاته على الدوام لم تكن سوى تعبيرٍ عن الأجندة السعودية المخفية والمكشوفة في آن معاً، حيث لا تزال تصر على أن تقرير مصير اليمن ليس إلا بنداً في جدول أعمال اللجنة الخاصة التابعة لمجلس الوزراء السعودي، والمعنية حرفياً بإدارة الشأن اليمني بكل تفاصيله منذ تأسيسها في عهد الملك فيصل عام 1963، وعلى نحو تبدو معه حكومة الكفاءات السياسية آخر وصفة تنجزها هذه اللجنة للشعب اليمني المغلوب على أمره.
ليس في الأمر مناكفة أو مبالغة، فاتفاق الرياض لم يتحقق من مضمونه شيء يخص اليمن أو سيادته أو كرامته، ولم تحقق الشرعية عبره شيئاً يعيد لها دورها ونفوذها وصلاحياتها الدستورية.
ويقيني أن هذا الاتفاق، على عكس ما تدعي الحكومة السعودية، لن يحفظ ماء وجه الشرعية الذي أُهرق تحت وطأة الضغط العسكري والتجريف الأمني، والإذلال الموجه لها ولمسؤوليها الذين حوصروا لأشهر في قصر المعاشيق كلاجئين تتيسر لهم غرف نوم مريحة وطعام جيد لكن مخلوطين بالقلق والمرارة، قبل أن يخرجوا منها بشكل نهائي إلى المنفى، والأرجح أن الاتفاق سيعمل على إفنائها بهذه الصورة التدريجية المتأنية التي نشاهدها.
لقد تمت صياغة هذا الاتفاق ليبدو منطقياً للغاية، فهو ينهي حرباً بين طرفين متكافئين أحدهما السلطة الشرعية، والآخر المجلس الانتقالي النافذ على الأرض والمدعوم دون حدود من طرف أو أكثر في ما يسمى تحالف دعم الشرعية الذي تقوده السعودية، منذ تأسيس هذا المجلس في 11 أيار/ مايو 2017 بعيد إقالة محافظ عدن عيدروس الزبيدي ومحافظين آخرين كانوا يعملون صراحة لحساب الإمارات.
منذ ذلك الوقت، فقدت السلطة الشرعية معظم ما كان بيدها من إمكانيات وموارد وقدرة على الاتصال وممارسة النفوذ في المحافظات الجنوبية بصور متفاوتة؛ تصل حدها الأقصى في محافظات عدن والضالع وأرخبيل سقطرى، التي تقع بالكامل تحت نفوذ المجلس الانتقالي، حيث يزداد فيها نفوذا على كافة المستويات، وتوضع بين يديه القوات التي أنشئت في المحافظات الجنوبية بمسميات متعددة لتتحول إلى بيدق بيد المشروع الانفصالي، وتصنف طبقاً للأمم المتحدة كقوات تقاتل بالوكالة، أي أنها لا تعمل تحت مظلة الدولة اليمنية بل تتخادم مع مشاريع تهدد هذه الدولة بشكل كامل.
أفرغت السعودية الاتفاق من مضمونه الجيد؛ الذي كان ينص على إعادة دمج الانتقالي وقواته ومليشياته ومشروعه السياسي ضمن الدولة اليمنية، وحرصت قبل إنجاز خطوة مهمة كهذه على فرض خيار إعلان الحكومة التي حصل فيها المجلس الانتقالي على خمسة حقائب وزارية، تؤازرها حقيبتان من نصيب الحزب الاشتراكي الذي تحول إلى أحد الأذرع السياسية المخاتلة بيد هذا المجلس، بتأثير النفوذ الإماراتي القوي على قيادات هذا الحزب المتآكل النفوذ.
لقد أرادت السعودية من خلال هذه الخطوة طمس ملامح السلطة الشرعية التي تدخلت عسكرياً في اليمن باسمها، ولتحقيق أهداف محددة أهمها إنهاء الانقلاب وإعادة هذه الشرعية إلى صنعاء، والحفاظ على وحدة اليمن، لأنها بكل وضوح تريد التحلل من تبعات هذا التدخل ومسؤولياته والتزاماته المعلنة. ولا شك أن هذه الحكومة بتركيبتها الهجينة هي الأداة التي سوف تحقق السعودية ومعها الإمارات أهدافهما من خلالها.
تمضي السعودية في الطريق نفسه الذي سلكته بريطانيا عندما قررت الانسحاب من مستعمرة عدن ومحمياتها بعد تواجد استمر قرنا وثلث القرن. فقد عمدت لندن حينها إلى ضرب المقاومة الوطنية وتفكيكها وتمكين أحد فصائلها، وهو الجبهة القومية، والذي كان أول شيء أنجزه هو طمس الهويات السياسية للكيانات المحمية، وتصفية النخبة السياسية المحترمة أو تحييدها وتهجيرها، والتنازل عن التعويضات القانونية للاحتلال البريطاني.
وفقاً لمعلومات غير مؤكدة ستقوم السعودية وربما الإمارات بوضع وديعة في البنك المركزي بعدن لتأمين النفقات التشغيلية وتأمين الاحتياجات المعيشية، بما يؤمّن بدوره استقراراً مرحلياً ويضفي بعض النجاح على حكومة تتكون من وزراء ينطلقون من أهداف وأيديولوجيات ومواقف سياسية ووطنية متصارعة.
ستغرق الحكومة عند هذه النقطة، فيما ستواصل قوى الأمر الواقع التي مُنحت فرصة للتحكم العسكري والأمني بالعاصمة المؤقتة عدن وفي عدد من المحافظات الأخرى؛ فرض نفوذها وإضفاء الطابع المرحلي لهذه التسوية.
وطبقاً لوثائق مسربة عن اللجنة الخاصة، فإن ما نراه اليوم ليس إلا جزءا من خطة كان قد اقترحها رئيس الوزراء اليمني الأسبق حيدر أبو بكر العطاس، والتي أوصت بإنجاز تسوية سياسية مع الحكومة في صنعاء حول مرحلة انتقالية من خمس سنوات، تنتهي إلى ترتيب استفتاء حول انفصال الجنوب عن شماله.
قد تمضي الأمور عكس ما تخطط له السعودية، وهذا أمر ممكن الحدوث، خصوصاً أن السعودية تكرر الخطأ الذي وقعت فيه إبان مقاربتها للوضع في اليمن طيلة الفترة الماضية، خصوصاً في اليمن الشمالي قبل الوحدة.
فلقد كانت أولوياتها تقضي بإغراق الزعامات القبلية والشخصيات ذات النفوذ بالعطايا وتشجيعها على بناء سلطة موازية للسلطة المركزية. وعملت في الآن نفسه على إيصال قيادات من قاع المجتمع لتولي الرئاسة والمناصب السيادية، والتحكم بالقرار السياسي والأمني في ذات الدولة الهشة المصادرة القرار. ولا أظنها إلا أنها ستمضي في نفس الخط، وليس أدل على ذلك من هذا التمكين الذي يحظى به أناس لا مبدأ لهم ولا خط أخلاقيا أو وطنيا يسيرون عليه.