طبقا للتصريحات التي تطلقها جماعة الحوثي المسيطرة على صنعاء، فإن المملكة العربية السعودية قد قبلت بكل مطالب الجماعة المندرجة ضمن ما تسميه الجماعة الملف الإنساني وسط ضخ إعلامي. ومن بين أهم ما يروج له وصول طائرة سعودية محملة بالأموال إلى صنعاء.
إنها إذاً النهاية المثالية للحرب في اليمن بالنسبة لحلفاء إيران (الحوثيين)، طالما أنها ستبقيهم حكاماً على الجزء الأكثر تأثيراً من حيث القوة الديموغرافية التي يتحكمون بها، ومن حيث المكانة الجيوسياسية الواقعة تحت أيديهم.
وإذا سلمنا بصحة ما يروجه الإعلام المساند لجماعة الحوثي، حول أن السعودية رفعت الراية البيضاء، فإن ذلك يعني انتصاراً للمهمة الإيرانية في اليمن وهزيمة كاملة وغير مستحقة أصلاً للسعودية، عدوها الإقليمي اللدود ومقابلها الفعلي، في حرب الوكالة التي تدور في الساحة اليمنية منذ ما قبل 8 سنوات وتمتد إلى ما قبل ذلك بكثير.
في الحقيقة لا يبدو الأمر كذلك، السعودية لم تغرق بعد في وحل الحرب في اليمن، فلديها من الإمكانيات والأدوات والقيادات اليمنية الطائعة، ما يكفي لكي تستمر في تجفيف المسار الذي تمضي فيه وسط ما يصر البعض على تسميته بالمستنقع، دون أن تخسر الكثير.
ثمة من يرتكز إلى تصريحات رسمية سعودية بشأن تحقيق تقدم باتجاه إنهاء الحرب، خصوصاً تلك التي أطلقها من منتدى دافوس وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان؛ الذي ينتمي إلى الفرع الأقل شأناً في العائلة السعودية الكبيرة.
التحركات التي تشترك فيها بقوة سلطنة عمان والمبعوث الأممي إلى اليمن والمبعوث الأمريكي كلها تدور حول تجديد الهدنة، وهي تحركات تصطدم بتعنت حوثي يصر على جني المزيد من المكاسب، وعلى رأسها الحصول على حصة من قيمة مبيعات النفط يغطي الحوثي من خلالها مرتبات مقاتليه وموظفو الجهاز الإداري الخاضع له، والمزيد من الصلاحيات والتحرر من القيود المرتبطة بمطار صنعاء الدولي وميناء الحديدة الرئيس على البحر الأحمر.
لا يمكن التقليل من أهمية المفاوضات الثنائية السعودية الحوثية إن جازت تسميتها كذلك، فهي تحقق مصالح مشتركة للطرفين، لأنها تخرج السلطة الشرعية من دائرة الالتزام الدولي وتطلق يد الرياض لتقرير مصير اليمن وفقاً لمصالحها وأولوياتها، وبالمقابل تمنح الحوثيين الفرصة لتكريس نفوذهم ومعه التمثيل الحصري لليمن، حتى لو لم يحصلوا على اعتراف كامل بكونهم الدولة اليمنية المفترضة.
وعليه فإن حسم الحرب بخسارة سعودية كما يروج الآن، لا يزال مبكراً ومستبعداً، أي أن الحديث عن هزيمة سعودية في حرب اليمن ليس له ما يبرره على الأقل في المدى المنظور، فلا يزال لدى الرياض ولدى حلفائها ما يكفي من الخدع لتحويل مسار الانتصار الذي يتشبث به هذا الطرف اليمني أو ذاك إلى هيمنة مستديمة للمملكة على البلاد، فقد حدث ذلك في أواخر ستينيات القرن المنصرم، إذ باشرت السعودية دورها في صنع الرؤساء والتحكم بالدولة منذ اللحظة التي انتصر فيها مقاتلو الجمهورية على الإماميين.
السيناريو يتكرر على ما يبدو، فقد دخلت السعودية منذ فجر 26 آذار/ مارس 2015 حرباً جوية واسعة في اليمن، لكنها لم تكن تريد من خلالها التوصل إلى نتائج واضحة، رغم أنها رفعت شعار دعم الشرعية.
فقد كان اهتمامها منصباً على ضرب القوة العسكرية العابرة للحدود، أو القادرة على تحييد التدخل الجوي، والتي وضعت منذ انقلاب 21 أيلول/ سبتمبر 2014 تحت تصرف الحوثيين، وأرادت أيضاً توجيه درس قاس لحليفها وتابعها القديم علي عبد الله صالح وشبكة ولاءاته وحلفائها التقليديين، فيما انصرف الجزء الثاني من مهمة القوة الجوية للتحالف إلى إدارة معركة استنزاف طويلة الأمد بين الحوثيين وخصومهم من المقاومة والقوات الحكومية، لا بل إن الطائرات الحربية السعودية والإماراتية استهدفت عبر سلسلة من العمليات الجوية المئات من جنود القوات الحكومية التي ادعى التحالف -ولا يزال- بأنه جاء لدعمهم من أجل استعادة الدولة.
إن أسوأ ما أنجزته السعودية خلال هذه الحرب في بلدنا أنها بالإضافة إلى ما أحدثته من مآسي كثيرة وفوضى وانعدام أمن وفقر، فإنها قوضت السلطة الشرعية التي منحتها مشروعية التدخل العسكري، وشرعت في إعادة بناء جماعات سياسية وعسكرية متنافرة الأهداف والمشاريع السياسية، ومعادية في معظمها لوجود الدولة اليمنية، وشكلت من هذه الجماعات منظومة من الحلفاء الجدد وأوصلتهم جميعا إلى هرم السلطة الشرعية.
اعتمدت السعودية في هذا الجهد على دولة الإمارات التي خاضت ضمن التدخل العسكري للتحالف حرباً لا هوادة فيها ضد ربيع اليمن وحزب الإصلاح ومن تسميهم جماعة الإخوان المسلمين، وادعت بفخر أنها كانت ولا تزال تحارب الإرهاب في عملية منفصلة لطالما حظيت بدعم أمريكي وغربي كبير، وصل حد التواطؤ في تنفيذ جرائم قتل بشعة بحق الأبرياء خصوصاً في مدينة عدن عبر مرتزقة أتت بهم من خارج الحدود.
يمكن القول إن السعودية قامت بتسوية الأرضية اليمنية بما يسمح ببقائها قوة مهيمنة ومتنفذة، عبر مصالحة سياسية تنتج سلطة حليفة لكن بالقدر ذاته من الهشاشة والتبعية التي عانت منها حكومات صنعاء قبل 22 أيار/ مايو 1990، والتي اتكأت على تحالف جهوي وقبلي، هو ذاته الذي يتكئ عليه الحوثيون قسراً لاستعادة سلطة القمع والقهر السلالي.
وثمة ما يدفع إلى الاعتقاد بأن السعودية في ظل هذا الغياب المخزي للقيادات اليمنية الوطنية، ربما تمضي في مهمة تصميم خارطة سياسية فسيفسائية تعكس المشاريع السياسية والطموحات السلطوية للجماعات اليمنية ما دون الدولة، وهو ما سيضع اليمن على أعتاب صراع من المحتمل أن يكون طويلاً ومدمرا لما تبقى من القدرات اليمنية ومن عافية الشعب اليمني ووجوده.
وفي هذه الحال ما من ضمانات لأن تُصاب القوة السعودية بالوهن بما يسمح لقوى خارجية بفرز قوة غالبة على ساحة الصراع اليمنية، يمكن لها أن تفرض هيمنتها لاحقاً، وإن ببطء، على الجغرافيا اليمنية.
وسيكون من الإيجابي أن تتمتع تلك القوة بكل سمات المشروعية الوطنية، لكن من المحتمل أيضاً أن تكون قوة غاشمة وطائفية كالحوثيين، ومرتبطة بمشروع جيوسياسي إقليمي عدائي كالمشروع الإيراني، وفي هذه الحالة سوف تتعمق بالتأكيد مأساة اليمن وتزداد، ويتحول الصراع في اليمن إلى تسونامي يكتسح المنطقة كلها، خصوصاً أن المنطقة تعاني من هشاشة في تركيبتها السكانية بفعل التركز الشيعي الموتور في بلدان الخليج الغنية والأغلبية من الجاليات الأجنبية التي تعج بها شوارع ومدن تلك الدول.
* نقلاً عن الموقع عربي 21