في مستهل العام التاسع من الحرب والأزمة في اليمن، يقف هذا البلد على أعتاب مرحلة جديدة وخطيرة تتهدد على الأرجح مستقبله الجيوسياسي، وتعد بها هدنة طويلة أخرى من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ نهاية شهر رمضان الجاري وتستمر حتى نهاية العام الميلادي، تعقبها ثلاثة أشهر، قبل الدخول في المرحلة الانتقالية المقرر أن تستمر لمدة عامين، وخلالها يتم التوصل إلى اتفاق بشأن الحكومة وشكل الدولة، إن صدقت التصريحات المنسوبة لقيادات في أطراف الحرب.
الهدنة وفقاً لهذه التصريحات ستأتي مصحوبة بحزمة واسعة من إجراءات بناء الثقة، والتي ستشمل فتح الموانئ التجارية والنفطية، والمطارات والطرقات، ووقف عمليات التفتيش على السفن الواصلة إلى موانئ الشرعية، والتي كانت تتم عبر ميناء جدة، وتوسيع قائمة البضائع المسموح باستيرادها لتصل إلى 500 نوع من السلع، بما فيها الأسمدة والبطاريات، كما تشمل تبادل الأسرى والمعتقلين وفق مبدأ الكل مقابل الكل، وإعادة توحيد البنك المركزي اليمني، وتوحيد سعر صرف العملة، وصرف المرتبات للموظفين المدنيين والعسكريين.
وفي هذه الأثناء يتواجد وفد عماني في صنعاء، وسيتبعه وصول السفير السعودي محمد آل جابر، ومسؤولين سعوديين آخرين، مما يشير إلى أن صيغة الاتفاق المعروضة على مجلس القيادة الرئاسي عبر السفير آل جابر، ثم عبر وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان، لا تزال تحتاج إلى موافقة نهائية من جماعة الحوثي، وقد تعلن الهدنة من صنعاء، لما لذلك من رمزية خاصة تضع الحوثيين في موقف المانح للسلام.
نحن إذاً إزاء تطورات دراماتيكية، تعصف بالمشهد اليمني، أبرز ما فيها أن التحالف بقيادة السعودية أوقف عملياته العسكرية تماماً، وأعادت المملكة التموضع في المشهد اليمني كوسيط وراع لعملية سياسية تكتنفها الصعوبات والتعقيدات، ولا تعد باستعادة الدولة اليمنية أو تحريرها من هيمنة القوى المسلحة ذات الأجندة الطائفية والانفصالية. وما يحدث أن الترتيبات التي تأتي اليوم في سياق الهدنة، وما ستتبعها من محادثات حول مستقبل الدولة اليمنية وإحلال السلام، هي من صنع المملكة العربية السعودية، متصلة بالمؤثرين الإقليميين، وأبرزهم إيران وسلطنة عمان، والمؤثرين الدوليين وأبرزهم الولايات المتحدة الأمريكية.
إن اليمنيين الذين ينتظمون في إطار المشروع الوطني، ويشكلون الطيف الواسع المكون للشرعية، هم اليوم شهود قليلو الحيلة، ويقفون للأسف على هامش الأحداث العاصفة التي تضرب بقوة في المشهد اليمني، رغم التعهدات التي وردت في خطاب رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي بمناسبة مرور عام على تشكيل المجلس باستعادة الدولة بالسلم أو الحرب.
هذا التعهد يفقد قيمته بعد أن تعرض المجلس منذ تشكيله في السابع من نيسان/ أبريل من العام الماضي وبشكل مقصود، لهزات أفقدته تماسكه وتضامنه، ودفعته إلى الشلل المبكر، ما سمح للسعودية بالتصرف نيابة عن هذا المجلس والبت في قضايا تدخل ضمن الصلاحيات السيادية الحصرية للسلطة الشرعية بقيادة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة.
هذا الاستحواذ على الصلاحيات السيادية للدولة اليمنية، بدأ بالإجراءات العسكرية أحادية الجانب التي أدت إلى انسحاب القوات الموالية للحكومة من مدينة الحديدة من معظم المنطقة الواقعة جنوب محافظة الحديدة، وتسليمها للحوثيين، وهو إجراء تزامن مع تسهيلات قدمت للجماعة لإحكام السيطرة على محافظة البيضاء، والتقدم باتجاه المديريات الشمالية الغربية لمحافظة شبوة والمتاخمة لمحافظة مأرب من الناحية الجنوبية.
لقد توزع مجلس القيادة الرئاسي إلى مجموعتين، الأولى برئاسة رئيسه الدكتور رشاد العليمي مع الأعضاء الشماليين في هذا المجلس، وتعنى بعملية التسوية السياسية مع جماعة الحوثي، أما المجموعة الثانية فتضم الأعضاء الجنوبيين في المجلس، وتعنى بصياغة تصور حول كيفية إدماج القضية الجنوبية في محادثة التسوية النهائية للأزمة والحرب في اليمن، وهذا مؤشر على أن البلاد تتجه بقوة نحن التقسيم، الذي سيتعزز من خلال فرض القضية الجنوبية في مسار التسوية، بخيار الاستفتاء على الانفصال.
ومن الأهمية بمكان ملاحظة أن التحول الراهن في مسار الأزمة اليمنية، يتأسس على عهدٍ جديد من العلاقات السعودية الإيرانية، يتسم بالإيجابية والانفتاح، والخطوات المتسارعة على الصُعد السياسية والاقتصادية وربما الاستثمارية، والتي تتأثر على الأرجح برؤية سعودية تتكئ على وضعية إيران الصعبة وعلى رغبة في تقييدها بمزايا استئناف العلاقات إلى الحد الذي يسمح بترويض مشروعها السياسي الطائفي المحمول على طموحات الحوثيين باستعادة الإمامة الزيدية في شمال اليمن.
لقد بقيت السعودية على مدى سنوات الحرب مطمئنة بشأن ارتهان حلفائها في السلطة الشرعية، وعدم امتلاكهم القدرة على المناورة، والمحكومين اليوم أكثر من أي وقت مضى بخيار الدور الأخير الذي ستعطى خلاله السلطة الشرعية المشروعية للترتيبات السعودية، وهي ترتيبات إن أفضت إلى إنتاج النسخة الثالثة من السلطة الشرعية بمشاركة جماعة الحوثي، فإن اليمن سيكون قد وُضع تحت تصرف جماعات الحرب الطائفية والانفصالية.
يشعر اليمنيون اليوم بخطر التمكين السياسي لجماعات تمتلك ما يكفي من القوات والسلاح للتمرد على نتائج العملية السياسية، بعد أن تكون قد تمكنت من تقاسم السلطة وتجاوزت عقدة الشرعية، في حين تدفع التسوية إلى إخراج السلطة الشرعية الحالية من المشهد، مما يعرض الوحدات العسكرية النظامية للانكشاف. وهو سيناريو سيدفع باليمن إلى حرب أهلية بلا أفق، تحرص السعودية على أن تبقى على مسافة كبيرة منها من حيث التبعات والأحمال والالتزامات.
لقد أبقت السعودية والإمارات السلاح بيد المجلس الانتقالي، بل ومده بالمزيد من السلاح، بعد التوقيع على اتفاق الرياض الذي نص بوضح كامل في شقه العسكري والأمني على توحيد القوات تحت مظلة وزارتي الدفاع والداخلية في العاصمة السياسية المؤقتة عدن. وهذا السيناريو سيطبق على الأرجح مع جماعة الحوثي، وهو أمر لا يمكن أن يسمح بالمرور إلى مرحلة السلام الذي ينبغي أن تتأسس على التكافؤ السياسي بين الأطراف، وعلى نزع سلاح الجماعات التي تعمل خارج الشرعية.
*عربي 21