ستة أيام أمضاها السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر في العاصمة صنعاء، لم يكن من بين أهم أهدافها على ما يبدو انتزاع تنازلات من جانب الحوثيين تساعد على تحقيق السلام في اليمن على قاعدة استعادة الدولة والدفع بعملية سياسية شاملة مع الشرعية، بقدر ما هدفت إلى إنجاز صفقة سعودية بامتياز، ترتكز على السطوة التقليدية للنفوذ السعودي في اليمن والمعزز باستعدادات لإغراق الحوثيين بالمزايا، ومن بينها دفع المرتبات مباشرة من الخزينة السعودية لهذه الجماعة لستة أشهر قادمة.
لم تخرج هذه الزيارة التي ساندها دور عُماني كبير في التوصل إلى نتائج حاسمة، ولكنها هيأت على ما يبدو الأرضية لإحداث تطور قد يكرس صدمة اليمنيين أكثر من أي وقت مضى بما تخطط له السعودية، وبالنتائج السلبية التي قد تطال البنية الجيوسياسية للدولة اليمنية في المدى المنظور، والعبث الإضافي المحتمل بالمركز السيادي لهذه الدولة، والدفع به ليصبح تركة متنازعاً عليها بين الأطراف الأكثر سوءاً في المشهد اليمني.
تعمل السعودية جاهدة لتحويل التفاهمات المكرسة لبناء الثقة، وصولاً إلى هدنة ثم وقف دائم لإطلاق النار، ثم إلى تسوية نهائية للحرب ترتكز على صفقة ثنائية تبدو الأمم المتحدة متأخرة كثيراً عنها، واضطر بسببها المبعوث الأمريكي إلى اليمن تيموثي ليندر كينغ إلى العودة إلى المنطقة لاستكشاف طبيعة ما يجري، وللتأكد ربما بأن هذه الخطوات المتسارعة على خط إنهاء الحرب؛ ليست انعكاساً لتأثير الدبلوماسية الصينية ولن تكون تكريساً لتفاهمات سعودية إيرانية قابلة للاستدامة وعصية على التأثير الذي تمارسه القوة الأمريكية العظمى، وتجلت بعض ملامحه في التحريك القانوني لقضية الأسلحة الإيرانية المهربة إلى الحوثيين.
لطالما ركز التدخل العسكري السعودي الواسع في اليمن والذي استُخدمت فيه أحدث الأسلحة، على مواجهة الانحراف الخطير في مخطط الثورة المضادة الذي رسم خطاً واضحاً لدور الحوثيين وحلفائهم؛ بحيث لا يتعدى مهمة تقويض الأدوات العسكرية والأمنية والسياسية الحرة المساندة للسلطة الانتقالية بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي، دون الوصول إلى مقدرات الدولة اليمنية المادية والعسكرية، أو المساس بالمركز الدستوري لهادي كرئيس، ولا بحكومته التي كان معظم أعضائها من خارج السياق الثوري. وقد رأينا كيف عمل الرئيس هادي بإخلاص ضمن الأجندة السعودية والأجنبية، وكيف أظهر القدر نفسه من الحقد على ساحات الحرية والتغيير والقوى السياسية المحركة لها والتي دعمت وصوله السلس وغير المستحق إلى السلطة.
ذهاب السفير السعودي إلى صنعاء إذاً لا يمكن تفسيره إلا بأنه تعبيرٌ فجٌ عن الأنانية المفرطة للجار الشمالي اللصيق، وتأكيدٌ على أن السعوديين يتصرفون باستعلاء ضداً على الإرادة الوطنية لليمنيين، ويحيّدون الشرعية، بل ويعطلونها عملياً من خلال سلبها صلاحياتها السيادية المتصلة بأهم واجباتها والمتعلق بضمان تقرير مصير الحرب استناداً إلى الأولويات والمصالح العليا للشعب اليمني.
ولا غرابة، فلقد سبق وأن شجعت الرياض الرئيس هادي وهو لا يزال في صنعاء على رأس الدولة والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، على التعاطي الإيجابي مع التقدم العسكري للحوثيين من صعدة باتجاه العاصمة صنعاء في تموز/ يوليو 2014، ضمن مخطط كان يهدف لإدارة معركة استنزافية شمال العاصمة، تنهك المهاجمين الحوثيين والمدافعين عن صنعاء والسلطة الانتقالية بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي، وحينها كان السفراء الغربيون يصفقون للمكاسب التي يحققها الحوثيون المرتبطون بالمنظومة الشيعية في المنطقة على القوات الحكومة المدافعة بصفتها قوات موالية للإصلاح (إسلامي).
لا شيء تغير من ذلك الوقت، فأعداء السعودية، هم أولئك الذين يذكرونها بأهداف تدخلها العسكري، ويعتقدون أن الحفاظ على كيان الدولة اليمنية ونظامها الجمهوري ينبغي أن يمثل أهم مخرجات الحرب، ويفضحون باستمرار توجه الرياض وشركائها في التحالف المتصدع، نحو العبث بالدولة وتسليمها بالتقسيط لجماعات مسلحة، طائفية وانفصالية، عبر اتفاقات ومشاورات متعددة المسارات، وفي المحصلة إضعاف قبضة الشرعية الممثلة للشعب اليمني على هذه الدولة، إلى حد أن المفاوضات المصيرية حول مستقبل الدولة والوطن باتت حصراً من اختصاص السفير السعودي دون غيره.
إن الأيام الستة التي قضاها هذا السفير في صنعاء، تكمن خطورتها الحقيقية في أنها أنجزت أهداف التطبيع السياسي والمعنوي مع جماعة مسلحة وطائفية ينبذها الشعب، ونجحت في إرباك الناس، وفي تحطيم معنوياتهم، بعد أن استبدلت الطائرات التي كانت تهد كيان العصابة الانقلابية، بالطائرات الخاصة التي تحمل الهدايا والدبلوماسية الناعمة.
ومع ذلك، ما قد يبدو تنازلاً سعودياً، لجماعة تبدي هذا القدر من الشراهة على ممارسة سلطة مطلقة وعنيفة وثأرية على اليمنيين وضدهم، لا يعدو كونه مناورة وتكتيكاً يرتبط بمخطط تسوية المشهد اليمني وفق الأولويات السعودية وهي أولويات يبدو أنها تريد إبقاء اليمن ساحة صراع مفتوحة، وعُرضة لمشاريع سياسية غير قابلة للتعايش، وهناك ما يكفي من الدعم لإبقاء هذا الأمر بمثابة كابوس يتهدد اليمن.
وفي المقابل ثمة مناورة حوثية مسنودة بدعم إيراني معلن للاستفادة من هذه الاستدارة السعودية، بهدف تكريس معطى جيوسياسي يخرج اليمن من سياقه الإقليمي العربي، وهذا الدعم الإيراني تعكسه الرسائل الإعلامية التي صيغت وتصاغ في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، وقد بثتها ولا تزال قناة المسيرة التابعة للحوثيين وغيرها من القنوات والمواقع بالإضافة إلى تغريدات ومنشورات الناشطين المرتبطين بالجماعة، وكلها شددت على موقع السعودية كعدو لا وسيط أو راع للسلام، وأبقت اللهجة حادة تجاه الرياض طيلة وجود سفيرها في صنعاء وقبله وبعده.
*عربي 21