عندما تتخلى الدولة عن مسؤولياتها تجاه شعبها، خصوصًا في مواجهة التحديات الجسيمة وعلى رأسها معركة تحرير البلاد من الاحتلال الإيراني، فإن هذا التخلي يترك فراغًا خطيرًا في الساحة. ذلك الفراغ لا يظل شاغرًا، بل تملؤه المشاريع الصغيرة، بكل ما تحمله من أجندات متناقضة، وغالبًا ما تكون مرتهنة لقوى إقليمية ودولية.
إن غياب الدولة بهذا الشكل يجعل البلاد مفتوحة على مصراعيها أمام التدخلات الخارجية. لا يوجد اليوم ما يمنع أي دولة في العالم — حتى لو كانت خلف القارة الأسترالية — من أن تقرر بكل بساطة أن يكون لها موطئ قدم في اليمن، وستتمكن من ذلك دون عناء.
نحن أمام قيادة تتربع على هرم مجلس القيادة الرئاسي، لكنها تتعامل مع اليمن أرضًا وشعبًا باستخفاف واستهتار غير مسبوق. قيادة تغيب عن المشهد في أكثر مراحله خطورة، ولا تملك حتى حسّ المتابعة أو الاستيعاب لحجم التحولات والمتغيرات الدولية والإقليمية المتسارعة التي تمسّ الداخل اليمني وشؤونه المصيرية. إنها قيادة لا علاقة لها بما يجري، وكأن الأمر لا يعنيها.
وفي ظل هذا الغياب المريع، من الطبيعي أن نسمع عن ولادة كانتونات سياسية وأخرى مسلّحة، ترى في نفسها البديل أو "المنقذ" لليمن، وتبرر وجودها تحت راية الإنقاذ الوطني أو الأمن الذاتي. ولا يُستبعد — إن استمر الحال على ما هو عليه — أن نسمع قريبًا عن إصلاحات شكلية في تركيبة مجلس القيادة، أو توسيع عضويته ليحتوي هذه الكيانات المستجدة، المسلحة منها أو السياسية، كمحاولة يائسة لشرعنتها واحتوائها.
لا أحد اليوم يمكنه أن يقف حجر عثرة أمام صعود أي مشروع جديد، سواء وطني أو مشبوه، لأن من يملك الحق والشرعية في القيام بذلك قد تخلى عن مسؤوليته، بل وسلم المحافظات والمدن للمليشيات لتحكمها باسمه وتحت عباءته. وبهذا المعنى، فإن القيادة الشرعية للدولة — ممثلة بمجلس القيادة والحكومة — تهيئ البلاد عمليًا لفوضى تتجاوز أسوأ التوقعات.
ما نراه اليوم هو أن اليمن تُجر جَرًّا نحو مستنقع الجحيم. وهذا يحدث في الوقت الذي بدأت أركان مليشيات الاحتلال الإيراني تتهاوى في أكثر من جبهة. تلك التطورات تُحتّم على قيادة الدولة أن تحشد كل إمكاناتها وتدفع بكامل ثقلها لاستغلال هذه الفرصة التاريخية. لكننا نصطدم بواقع من اللامسؤولية المفرطة. إذ لا يُعقل — بل يُعد ضربًا من الجنون — أن تبقى القيادة خارج البلاد في ظل هذه التحديات والتداعيات المتسارعة التي تعصف باليمن.
أمام هذا الواقع، تظهر معطيات جديدة قد تفرض نفسها بقوة: أن تتحرك ما تبقى من مؤسسات الدولة الشرعية لتتحمل مسؤوليتها، حتى ولو اضطرّت لتجاوز مجلس القيادة الرئاسي نفسه. هذه المؤسسات باتت تتمثل اليوم في الجيش الوطني، والمقاومة الشعبية، وبعض القوى السياسية التي ما تزال حاضرة وفاعلة داخل البلاد.
المتغيرات على الأرض تفرض على تلك القوى التقدم خطوة للأمام، لا انتظارًا للقيادة الغائبة، بل لانتهاز الفرصة قبل ضياعها. فقيادات الخارج باتت تمثل تهديدًا أكبر لوحدة اليمن واستقراره من كثير من المشاريع الخارجية، لأن جوهر تهديدها يكمن في تعطيل مؤسسات الدولة، وترك الساحة مفتوحة لتتخطفها الأطماع والأجندات المتعددة.
نحن اليوم على هامش الفرصة الأخيرة، وما لم يتحرك العقلاء والوطنيون لاقتناصها، فقد لا تُمنح مرة أخرى.