فجّر تقرير نيويورك تايمز مؤخرًا موجة من التفسيرات المتضاربة حول إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المفاجئ عن "النصر" في حملته ضد ميليشيا الحوثي في اليمن، رغم أن المعطيات العسكرية والوقائع الميدانية لم تُظهر أي تحول نوعي يمكن اعتباره إنجازًا حقيقيًا على الأرض.
وفي تأكيد لجوانب من الحقيقة، أوردت رويترز في تقريرها الأخير أن مليشيا الحوثي لم تعد قادرة على تحمّل المزيد من الضربات الصاروخية، إذ سارعت إلى مخاطبة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بعدم قدرتها على الصمود أكثر. وهذا يُعزز من حقيقة أن الحوثيين قبلوا فعليًا بكل الاشتراطات الأمريكية، أو بالأحرى بما فُرض عليهم ضمن شروط التهدئة، وفي مقدمتها تأمين خط الملاحة في البحر الأحمر بالكامل، دون استثناء لأي نوع من السفن.
ولقطع الطريق على أي محاولة من الميليشيا لتزييف الوقائع، جاء إعلان الحكومة المصرية واضحًا حين أكدت أن البحر الأحمر أصبح آمنًا لمرور جميع السفن، ودعت شركات الملاحة إلى العودة لاستخدام هذا الخط الحيوي، بما يؤكد أن أهداف واشنطن قد تحققت.
لكن، لفهم الصورة الكاملة، لا بد من العودة إلى ما بين سطور تقرير نيويورك تايمز الذي يكشف أن إعلان "النصر" لم يكن فقط استنادًا إلى تحقيق الأهداف، بل أيضًا تعبيرًا عن نفاد صبر الرئيس ترامب، ورغبته في إنهاء الحملة العسكرية سريعًا قبل زيارته إلى المنطقة، خاصة بعد أن تحققت الغاية الأساسية: تأمين الملاحة دون التورط في نزاع طويل الأمد.
أولاً: الضربات الجوية لا تحسم المعارك
من أبرز أخطاء التقدير في الحملة الأمريكية، الاعتقاد بأن الضربات الجوية وحدها كفيلة بإخضاع ميليشيا عقائدية تجيد العمل تحت الضغط، وتتفنن في المناورة داخل تضاريس معقدة.

نفذت القوات الأمريكية أكثر من 1100 ضربة خلال 30 يومًا، كلفت البنتاغون أكثر من مليار دولار، وألحقت تدميرًا واسعًا في مراكز القيادة والتدريب ومخازن السلاح، إلا أنها لم تتمكن من الإطاحة بقيادات الصف الأول للجماعة.
• النتيجة على الأرض كانت محدودة:
التأثير اللحظي دون تحرك بري يبقى ناقصًا.
فالميليشيا - كعادتها - أعادت التموضع، ونقلت بعض مخازنها إلى الأنفاق، وأعادت ترتيب دفاعاتها، رغم تكبّدها خسائر فادحة بحسب سكان من مناطق سيطرة الحوثيين.
كان بالإمكان تحويل هذه الضربات إلى إنجاز ميداني كبير لو تزامنت مع تحرك منظم لقوات الحكومة اليمنية، لكن ذلك لم يحدث.
ثانيًا: رواية "النصر الحوثي" مجرّد دعاية
ادّعاء الحوثيين بأنهم "هزموا أمريكا" لا يخرج عن كونه تكرارًا للرواية الأمريكية ذاتها، والتي أرادت الانسحاب بهدوء بعد تحقيق أهداف محدودة.
لكن الواقع الاستراتيجي يقول إن الحوثي:
لم يسيطر على أي أرض جديدة،
لم يوقف النزيف البشري في صفوفه،
لم يحمِ قياداته العليا،
ولم يحقق أي مكاسب سياسية أو دبلوماسية.
بل على العكس، قَبِل بشروط واضحة تقضي بعدم استهداف السفن في البحر الأحمر، وهو ما يمثل في جوهره هزيمة استراتيجية وإن لم تُعلن بهذا الوضوح.
ومع أن الهدف الأهم للأمريكيين – وهو تأمين خط الملاحة – قد تحقق، فإن الهدف الأعمق، المتمثل في تدمير القدرة الصاروخية للحوثيين بشكل دائم، لم يُنجز بالكامل. ولذلك، فإن الهدنة الحالية تظل هشة بطابع الهزيمة للحوثي، وتهدئة مؤقتة بالنسبة لواشنطن.
ثالثًا: الغائب الأكبر… الجيش اليمني
من الملاحظ غياب تام للقوات اليمنية الشرعية في تقرير نيويورك تايمز. لم تُذكر كفاعل في الضربات، ولا كطرف معوّل عليه لاستكمال المعركة، وهو تغييب مريب ومؤلم، يجب على الحكومة الشرعية أن تراجع أسبابه، خاصة أن الواقع الميداني يشير إلى أن النتائج التي تحققت – مهما كانت – تصب في صالح الشرعية وقواتها الحكومية
لماذا إذاً تم إقصاء الجيش الوطني من خطط المعركة؟
الجواب يعود إلى الحصار السياسي والمالي المفروض على القوات الشرعية، والتدخلات الإقليمية التي تقيد حركتها، رغم أنها الطرف الوحيد القادر على الحسم البري.
ولو فُتحت الجبهات، ووُفر الدعم اللوجستي، وتم رفع القيود السياسية، لانتهى وجود الحوثيين في أسابيع.
لكن الحسابات الخاطئة لدول الاقليم تقف العائق الأبرز امام نهاية مليشيات الحوثي الارهابية
رابعًا: إدارة ترامب لم تهزم الحوثي... بل أنهت حملتها مبكرًا
قرار وقف الحملة لم يكن ناتجًا عن استحالة النصر، بل بسبب حسابات داخلية تتعلق بأولويات ترامب في ملفات الصين وتايوان.
الحملة لم تكن لليمن، بل لأمريكا.
كانت رسالة ردع في البحر الأحمر، وسرعان ما توقفت بمجرد تحقق الغرض التكتيكي.
حتى وصف ترامب للحوثيين بـ"الشجعان" هو تجميل للانسحاب، ومحاولة لاحتواء النقد الداخلي، في ظل خسائر فادحة في المعدات وتكاليف تتجاوز مليار دولار شهريًا.
خامسًا: الرسالة إلى الداخل اليمني
ما كشفه تقرير نيويورك تايمز هو دعوة مفتوحة لإعادة ترتيب الأولويات:
المعركة لن تُحسم من الجو.
الحل لن يأتي من الخارج.
لا بديل عن قرار داخلي شجاع بفتح الجبهات.
الميليشيا الحوثية اليوم في أضعف حالاتها: شعبيًا منبوذة، ميدانيًا مستنزفة، وسياسيًا محاصرة.
لكن تأخير الحسم، وتركها تُرمم دفاعاتها، قد يمنحها فرصة للعودة.
ما يحتاجه اليمن اليوم هو:
رفع القيود المفروضة على الجيش الوطني والمقاومة،
الضغط السياسي لعودة القيادة الشرعية إلى الداخل،
توفير الغطاء السياسي واللوجستي للمعركة،
واستغلال اللحظة الإقليمية والدولية لتوجيه الضربة القاضية لمشروع الميليشيا.
عندها فقط، سيكون البحر الأحمر آمنًا بحق، والمنطقة قد استعادت أمنها واستقرارها لسنوات طويلة قادمة.