بعد أن قرأت ما كتبه الأستاذ خالد الرويشان، حاولت أن أُقنع نفسي، وأميل مشاعري نحو التعاطف مع إيران، مع التأكيد أنني لا يمكن أن أكون في صف إسرائيل المحتلة لفلسطين أو حتى مجرد التفكير بذلك. لكنني، يا أستاذ خالد، أقول لك الآتي:
كلما حاولت مجرد التفكير بالذهاب نحو التعاطف مع إيران، تعود إلى ذاكرتي مشاهد جنود "الفرقة الأولى مدرع"، وجثثهم تملأ شوارع صنعاء، وبعضها باتت الكلاب تأكل منها، وفي ذات اليوم كان مسؤول إيراني يتحدث عن سيطرتهم على العاصمة العربية الرابعة.
وكلما حاولت تجاوز ذلك، تعود إلى ذاكرتي مشاهد اغتيال اللواء حميد القشيبي ورفاقه من اللواء 314 في عمران، ثم تفجيرات البيوت على ساكنيها، وتدمير المساجد، ومدارس تحفيظ القرآن.

وكلما حاولت أن أتجاوز كل تلك المشاهد، انسياقًا مع مخاوفك من سقوط باكستان وتركيا، ومن أن العالم العربي والإسلامي سيسقط في قعر الجحيم… وكأن العالم العربي والإسلامي لا يعيش اليوم فعلًا في قعر الجحيم، بسبب السياسات الطائفية والحروب التي أشعلتها إيران.
ومع ذلك، ما زلت أحاول أن أتقبل مخاوفك، وأسوق مصلحة الأمة كسبب، لكنني أتذكر أن والدي توفي وهو يعيش قمة القهر، جراء تشريد أولاده، وتفكيك أسرته. توفي وهو يردد في أيامه الأخيرة: "كم أنا محتاج لضمكم إلى صدري، لكن خوفي عليكم من هؤلاء القتلة كبير. بقاءكم بخير يكفيني رغم حاجتي لكم".
أتدري يا أستاذ خالد، ماذا يعني أن يموت والدك ووالدتك وخالتك وعمّتك وأقرباؤك، وأنت لا تستطيع حتى أن تنظر إلى وجوههم نظرة وداع، أو تحضر عزاءهم؟ دعك من هذا كله، وتعال لتتخيل أن أحد أفراد أسرتك يعيش الموت كل يوم، بسبب مرض ألمّ به، وأنت تقف عاجزًا، لا تستطيع أن تقدم له شيئًا، لأن مليشيات إيران قد استباحت مالك وممتلكاتك.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يصل بك إلى أن تجد أحد أصدقائك، ممن كانوا بجرة قلم يستطيعون سحب مئات الملايين من أي بنك، لأنه رجل أعمال ناجح، وتكتشف فجأة أنه معتقل، وأن أسرته لا تملك حتى ثمن وجبة طعام يقدّمها له في محبسه.
لن أذهب بك بعيدًا إلى ما حدث في تعز وعدن، ولن أذكّرك بالتصفية العرقية التي تتعرض لها صعدة، ولا أذكّرك بالمجازر التي وقعت في مديريات حجة، ولا بكل الجرائم التي ارتُكبت في البيضاء.
حتى الركّع السجود لم يسلموا منهم، حين قتلوا وجرحوا أكثر من 200 جندي، وهم يؤدون صلاة المغرب في أحد المساجد!
يا أستاذ خالد، أنا المهجّر والمشرّد والجائع في المخيمات، لا أفهم "العمق الاستراتيجي" لإنقاذ العالم الإسلامي، لكنني أفهم أننا نعيش تحت احتلال إيراني فاشي، مستمر حتى اللحظة، يمارس ضدنا كل الانتهاكات التي لم تعشها أنت، ولن تعيشها.
معيب بحق شخصية مثلك أن تطالب الضحية المسحوق، الذي يواجه كل عذابات جلاده المحتل الظالم، أن يتجاهل واقعه، ويذهب ليقف مع جلاده.
وإذا كانت هذه المشاهد غير كافية لتغير من قناعاتك الاستراتيجية لأسباب إنسانية، يمكنك الانتقال لمشاهد جرائم إيران في العراق وسوريا.
ففي الوقت الذي تدعو فيه بعمق استراتيجي للوقوف مع إيران، نجد إيران نفسها، المحتلة للعراق، تُعدم العشرات يوميًا من أبناء الأنبار، وتحاصر أكثر من مليون عراقي سني في مخيمات اعتقال في صحراء الأنبار.
فهل تحدّث أحدكم يومًا بعمق استراتيجي عن تلك الجرائم؟ وهل عدّها أحدكم إبادة جماعية عرقية؟ أم أن الحديث عن هذه الجرائم لا ينسجم مع نظرية "الخطر على الأمة" الذي تروّجونه حين تضعف إيران؟
نعم، العالم العربي والإسلامي يعيش منذ سنوات طويلة في قعر الجحيم، والمشروع الإيراني الطائفي الفاشي هو أول من وضع الأمة في هذا الجحيم، قبل إسرائيل، وقبل أمريكا، وقبل أي قوة أخرى.
رفقًا بالشعوب، رفقًا بالضحايا. لا تطلبوا منّا أن نذبح ذاكرتنا، وأن نغفر للقتلة فقط لأنهم يرفعون شعارات "القدس" و"الممانعة" و"التحرير".
لقد قُتلنا، وذُبحنا، وشُرّدنا، وتيتّمت أسرنا، وتفكّكت مجتمعاتنا، تحت راية هذه الشعارات نفسها.
فيا أستاذ خالد…
إن كان لك أن تختلف معنا في الرأي، فلا تختلف معنا في الوجع.
لسنا بحاجة لمن يقنعنا بصوابية القتلة أو شرعية المحتلين، نحن بحاجة لمن يضع يده على جراحنا ويقول: "أشعر بكم... أفهمكم... أنحاز لكم".
لسنا عبيدًا لنختار جلادًا على آخر، ولسنا تجار دم لنساوم على قضايانا بين احتلالين.
نحن أبناء هذا الوطن... من لحمه وترابه ودمه ووجعه.
كل ما نريده أن نحيا بكرامة، أن ندفن موتانا بسلام، وأن نُولد في بلد لا يسألنا: من أنتم؟
نحن نريد أن نعيش يا أستاذ خالد... فقط أن نعيش.
فلا تطلب منا أن ننسى، ولا تطلب منّا أن نغفر لمن مزق قلوبنا، وشردنا في وطننا، وذبحنا باسم قداسة زائفة.
ولتعلم أن الجرح اليمني، يا صديقي، ليس جرحًا سياسيًا يمكن رأبه ببضع كلمات...
إنه جرح الروح... جرح الأم التي ما زالت تنتظر ولدها، والأب الذي مات قهرًا، والطفل الذي نام جائعًا . والوطن المختطف ...
فلا تحدثنا عن "إستراتيجيات النجاة"، ونحن لم نعرف في حياتنا سوى السقوط في قعر الحروب الطائفية لإيران